القرب (الجزء الثاني)

إليكم تتمّة الجزء الأوّل من تأمّل العام الجديد الذي مارغريت كرّام، رئيسة مجموعة الفوكولاري، اختارته لسنة ٢٠٢٥ تحت عنوان “القرب”، أو “من أنت بالنسبة إليّ”؟

القرب “في الله” و”مع الله”
في بعض نصوص كيارا، يبدأ قُربُنا من قريبنا بنظرتنا تجاهه، كما تشرح في هذا المقطع:
“كم من الأشخاص تلتقي بهم خلال يومك، من الفجر إلى المساء… يجب أن ترى فيهم جميعًا يسوع.
إذا كانت عينك بسيطة، من ينظر من خلالها هو الله. والله محبّة والمحبّة تريد أن توحِّد، فيما تكسب الآخر. كم من الأشخاص- وهم يخطئون- ينظرون إلى المخلوقات وإلى الأشياء كي يمتلكونها، ونظرتهم نظرةٌ أنانيّةٌ أو غيرةٌ أو على كلّ حال خطيئة. أو ينظرون في داخلهم ليمتلكوا أنفسهم، ونظرتهم مطفأةٌ لأنّها ضجرةٌ أو مضطربة. النفس، لأنّها صورة الله، هي مَحبّة، والمحبّة المنقلبة على نفسها تشبه الشعلة التي تنطفئ بدون تغذية.
أنظر خارج ذاتك: لا تنظر في داخلك، ولا في الأشياء، ولا في المخلوقات. أنظر إلى الله خارج ذاتك لتتّحد به.
الله موجودٌ في قلب كلّ إنسانٍ يحيا، وإن لم يكُن هذا الإنسان في حالة النعمة، فهو هيكلُ الله الذي ينتظر حضوره ليجد الفرح ومعنى وجوده.
أنظر إذاً إلى كلّ أخ وأنت تحبّه والمحبّة هي عطاء.
ولكنّ العطاء ينادي العطاء وسوف تُحَبّ بدورك”.

“ديناميكيّة” القرب
نرى هنا أنّ فهم كيارا للقرب “ديناميكيّ”. تخبرنا كيف يجب أن تكون نظرتنا نحو الآخر: نظرة حبٍّ صافية، ونقيّة، نظرةٌ قادرةٌ على “اكتشاف ما هو إلهيّ في الآخرين”، على اكتشاف كيانهم الحقيقيّ.
وهذا يتطلّب انفتاحًا كاملًا، استقبالًا بدون تحفّظ؛ ولكنّ ديناميكيّةً مثل هذه تهدف إلى تحقيق ذات الآخر بأقصى قدر، لا يمكن إلّا أن يكون لها تأثيرٌ عليّ أيضًا: ستقودني إلى الخروج من مخطّطاتي الشخصيّة، لأُحبَّ بطريقةٍ أكثر إبداعًا، وهكذا أترك فسحةً لما هو إلهيٌّ فيّ أيضًا.
سيكون هناك إذًا حركةٌ مستمرّة: من الله في داخلي إلى الله في الآخَر، وهكذا سيقيم هو في وسطنا.

مَنطق القرب في المسيحيّة
لذلك، هناك طرقٌ لا حصر لها لِعَيْش القرب وممارسته– لأنّ القريبين الذين نقترب منهم يحتاجون إلى محبّةٍ شخصيّة، وليس إلى محبّةٍ “تسلسليّة” –. ولكن هناك منطق واحد فقط يكمن وراء أفعالنا نجده في الكتاب المقدّس: إنّه المحبّة.
إنّ المثل الأكثر رمزيّة في الإنجيل هو مثل السامريّ الصالح (لو 10). فيسوع، ليجيب عن سؤال أحد الكتبة الذي سأله: “من هو قريبي؟” يروي قصّة الرجل الذي “نزل من أورشليم إلى أريحا”.
يمكن تحليل هذا المثل من وجهات نظرٍ متعدّدة، ولكن ما أودّ أن أسلّط الضوء عليه هنا هو موقف السامريّ تجاه الرجل الذي ضربه اللصوص. لم يكن يعرف شيئًا عنه، لقد كان غريبًا تمامًا بالنسبة إليه. كان ينتمي إلى شعبٍ آخر، له تقاليده الدينّية والثقافيّة المختلفة.
في قصّة يسوع، هناك رسالةٌ أولى مهمّة: أصبح الشخص الأبعد قريبًا. لماذا؟ لأنّ السامريّ نظر إلى هذا الرجل المجروح في جوهره الحقيقيّ: فهو كان رجلًا، إنسانًا مثله.
هذا هو قلب الروح الإنسانيّة المسيحيّة، وهي رؤيةٌ خاصّةٌ محدَّدةٌ للشخص والعلاقات، وقد غيّرت العالم بالعمق. نجد في هذا المثل ليومنا أيضًا أُسُسَ الحياة الاجتماعيّة: الإعتراف بحقوق الإنسان، والكرامة اللامتناهية لكلّ شخص.
ولكن في هذا المثل هناك رسالةٌ ثانية، هي أنّ منطق روابط الدم الطبيعيّة يمكن تخطّيها أو بالأحرى توسيعها بشكلٍ أفضل. وفي هذا الصدد، يقول الكاردينال كارلو ماريّا مارتيني ما يلي:
“أنا أصبح قريبًا. فالقريب ليس هو الشخص الذي لديه علاقاتٌ معي بالدّم والعرق والأعمال والتشابه النفسيّ. أنا أصبح قريبًا في العمل الذي قرّرت فيه، أمام إنسانٍ ما، حتّى أمام الغريب والعدوّ، أن أتّخذ خطوةً تُقرِّبُني منه، تجعلني قريبه”.
وهكذا فإنّ فئة القريب تتجاوز فئة الجار، لأنّ الطبيعة الإنسانيّة المشتركة هي المعيار الوحيد الصحيح لمساعدة الإنسان. وبالفعل، في جذور هذه الثورة الإنجيليّة يكمن مبدأ الأخوّة الشاملة. بمجرّد أن نختبر ذلك بشكلٍ ملموس، نكتشف أنّ لكلّ شخص الحقّ في ذلك. لا أحد مستبعَد: الـ”نحن” تتوسّع لتصبح “الجميع”.

وعندما لا نستطيع الوصول إلى الجميع؟
ولكن ماذا نفعل إذا منعتنا الظروف من أن نكون قريبين من شخصٍ متألّمٍ أو محتاج؟ تقول كيارا إنّه عندما لا يمكنني فعل أيّ شيء: “(…) سأفعل ما يريده الله منّي في هذه اللحظة (…) وسيفكّر الله في (…) تعزية الذين يتألّمون، وفي حلّ ذاك الأمر الذي طرأ. هذه الثقة المتبادَلة تصنع المعجزات. سنرى أنّه حيث لم نصل نحن، وصل حقًّا الآخر بامتياز (أي الله)، وقام بعمل أفضل منّا بكثير “.

كيف يمكنني إذًا أن أكون قريبًا من الآخر؟
إلى جانب ما أبرزتُه حتّى الآن، أودّ أن أترك لكم هنا بعض الكلمات الفلاش. ولكن كلّ واحد منكم يمكنه أن يجد كلمات أخرى تساعده على عيش القرب.

• أن أقوم بالخطوة الأولى. في بعض الأحيان يكفي أن نسأل: “كيف حالك؟” كي يشعر الشخص الآخر بأنّنا “ننظر” إليه ونقدّره.
• أن نصغي. الإصغاء والصمت التفاعليّ يؤثّران أكثر من كلماتٍ كثيرة.
• عدم التوفير في الوقت الذي نكرّسه للآخر!
• أن نترك الألم يمسُّنا، ونجعله ألمَنا.
أودّ أن أختم بمقطعٍ من الإرشاد الرسوليّ ‘فرح الإنجيل‘، الذي يبدو لي أنّه يلخّص جّيدًا الغنى الكبير للقرب. يكتب البابا فرنسيس، بدءًا باقتباس من بنديكتوس السادس عشر:
“(…) إنّ إغلاق أعيُننا عن القريب يُعمينا أيضًا عن الله، فالحبّ هو في الأساس النور الوحيد الذي ينير دائمًا عالمًا مظلمًا ويمنحنا الشجاعة للعيش والعمل. لذلك، عندما نعيش سرّ القرب من الآخرين بنيّة البحث عن خيرهم، فإنّنا نوسّع داخليَّتَنا لتلقّي أجمل عطايا الربّ”.

لذلك، من المفيد أن نعيش القرب، وأن نستقبل برجاء سنة اليوبيل التي هي على وشك أن تبدأ!

المدينة الجديدة

Spread the love