نعيشُ في «عصر العولمة». عبارةٌ باتَتْ تتردّد تلقائيًّا على ألسنة الناس من توجهّاتٍ وثقافاتٍ وبلدانٍ مختلفة. وغالبًا ما تُرْفَقُ بعبارة «أصبح العالم ضيعة». تَليها إشاراتٌ تُعبّرُ عن نوعٍ من الاستسلام عند البعض، أو إعجاب الخبراء عند البعض الآخر. ولكن، لا هذا ولا ذاك يستطيع أن يتوقَّع ما ستؤولُ إليه حال البشريّة بعد عقدٍ أو اثنين من هذه العولمة المثيرة التي باتت واقعًا لا مَفرَّ منه، بل نرى عند الكثيرين قلقًا كبيرًا ممّا يمكن أن تأتي به من تحوّلاتٍ وتغيُّرات، طالما لم توضَعْ لها ضوابطُ علميّةٌ وأخلاقيّةٌ وقانونيّة. يُخْشَى مثلاً أن يستفيدَ منها القويّ والغنيّ فيزداد قوّةً وغنًى، على حساب الضعيف والفقير الذي سيزدادُ ضعفًا وفقرًا.
في اعتقادي، إنّ العودة إلى التاريخ، إلى ذاكرتنا الجماعيّة، قد تساعدنا في رسم مقاربةٍ جديدةٍ لما يجري حولنا، عَلَّنا نتمَكَّن من التأثير ولو بالحدِّ الأدنى في مُجْرَيات الأمور، فلا نَنْساق غنمًا أو عميانًا وراء تحوّلاتٍ قد لا تكون بالضرورة لمصلحة الإنسان اليوم. فعندما ندخل في عمق تاريخنا نَجِدُ أنفسنا في إطار عولمةٍ من نوعٍ آخر، فيها من القِيَم ما يُدْهِش، مع فارق التقنيّات وأدوات التكنولوجيا. وليس في الأمر غرابة، فشَعْبُنا القديم الذي عُرفَ في التاريخ باسم الكنعانيّين، وعرفَهُ العالم الغربيّ باسم الفينيقيّين، استطاع أن يربطَ الشعوب المعاصرة له بعولمةٍ مميَّزة، وبأساليبَ أثارت إعجاب أشدّ مُنافسيهم وأَلَدّ الخصوم، كاليونانيّين والرومان.
إعْتَمَدَ الفينيقيّونَ لإنجاز العولمة على عناصِرَ عدّة، نادرًا ما تجتمع معًا عند شعبٍ واحد. فهم كانوا أوّل من ركب البحر وأتقنوا صناعة السفن المتينة من خشب الأرز واحترفوا الملاحة وتمرَّسوا بالسفر مُتًتًبّعين حركة النجوم، فأصبحوا منذ فجر التاريخ أسياد البحار. وأثبتوا خلال الزمن أنّهم أصحابُ عزيمةٍ لا تَكِلّ، حتّى أنّ بعض المُؤرّخين أُطلِقَ عليهم لقب «الملاّحين الذين لا يتعبون». إلاّ أنّ أهمَّ ما كانوا يتحلّون به يبقى ولا شكّ تَعَلّقهم الشديد بمعتقدهم المَبْنيّ على قِيَمِ السلام والحرّية والانفتاح. بهذه المبادىء ذهبوا لملاقاة أبناء الشعوب الساكنة على ضفاف البحر المتوسّط وإن كانت التجارة من الحوافز الأساسيّة لِتَنَقُّلاتهم. وقد بدأوا بالانتشار على نطاقٍ واسعٍ مع نهاية القرن الثالث عشر ق.م.
كانت الدولة المصريّة الفرعونيّة قد ضَعُفَتْ وهَزِلَتْ، فيما كانت المملكة الأشوريّة لا تزال يافعةً غير قادرةٍ على تشكيل أيّ خطرٍ على جيرانها وعلى الفينيقيّين تحديدًا. فرفع الفينيقيّون أشرعة الحرّية ومخروا البحر وراحوا يبنون المستوطنات التجاريّة حول المتوسّط بطرقٍ سلميّةٍ ومن دون احتكاكٍ مع السكّان الأصليّين.
كانت طريقتُهم في التجارة فريدةً من نوعها. تصلُ السفينةُ الفينيقيّة قُبالة الشاطئ حيث ينتظرها مجموعةٌ من الناس المعنيّين بالبضائع المُحَمّلة من موانئ جبيل وبيروت وصيدا وصور وغيرها… يُنْزِلُ البحّارةُ بضائِعَهُم إلى الشاطئ ويعودون إلى السفينة. يقترب السكّان لمعاينة البضائع التي يريدون شراءها ويضعون قُبالَتَها ما عندهم للمبادلة. ينزل البحّارة مجدّدًا، فإذا اعتبروا أنّ ما وضعه السكّان يوازي قيمة البضاعة حَمّلوه وأبحروا، وإلاّ أعادوا الكرّة غير مرّةٍ إلى أن يصلوا إلى مقايضةٍ مرضيّة.
هذا الأسلوب في التجارة كان يُلاقي كلَّ الاستحسان عند الشعوب القاطنة في حوض البحر المتوسّط، إلى درجةٍ أنّهم تركوا – ولفترةٍ طويلة – زمام المبادرة البحريّة للفينيقيّين الذين شكّلوا الجسر بين البلدان، وهمزة الوصل بين الشعوب القديمة. كلُّ ذلك بروحٍ سلميّةٍ نابعةٍ من إيمانٍ بآلهةٍ تُعلّمُ السلام والعطاء والمحبّة. وبفضل ذلك استطاع الفينيقيّون بناءَ مئات المدن لا يزال معظمها عامِرًا حتّى اليوم في تونس وإسبانيا والبرتغال وقبرص وصقليّة وسردينيا وغيرها. وهكذا حوّل الفينيقيّونَ البحر المتوسّط إلى «بحيرة» وقرّبوا المسافات بين الأمم وأسّسوا لأوّل عولمةٍ في التاريخ، قائمةٍ على التبادُلِ السِلْمِيّ وبعيدةٍ كلَّ البعد عن محاولات الاسْتِئْثار والتسلّط.
في أيّامنا هذه بدأ بعض الجامعيّين يُدرّسون مبادِئَ التجارة الفينيقيّة السلميّة التي أدّت إلى نشوء عولمةٍ سلميّةٍ لخير البشريّة، حتّى تكون العولمةُ الحاليّة خيرًا لشعوب العالم أجمع.
بقلم الدكتور ناجي كرم
ب