الطريق إلى الحبّ الحقيقي
أودّ أن أنتقل إلى مرحلةٍ جديدةٍ في علاقتي العاطفيّة، أي أن أرتبط بالفتاة التي أعشق دون أن أدع ماضيها أو ماضيّ حجر عثرةٍ أمام حبّنا. هي خطوةٌ جريئة لكنّني لا أريدها أن تكون مجرّد نزوة، كيف أتأكّد من نضوج هذا الحبّ؟
في كلامه عن الحبّ الزوجي يقول المجمع الفاتيكانيّ الثاني: إن الحبَّ الزوجيّ “لأنسانيٌّ إلى منتهى الحدود، إذ يصدر عن شخصٍ نحو شخصٍ آخر بقوّة العاطفة والإرادة، ويتناولُ خيرَ الإنسان بكامله. ولذلك كان بإمكانه أن يُضفيَ كرامةً خاصّةً على تعابير الحياة الجسديّة والحياة النفسيّة(…)، لقد تعطّف الربّ ومنح نعمته ومحبّتَه هذا الحُبّ، فشفاه وكمّله ورفعه”. رفعه إلى مستوى سرٍّ إلهيّ.
لحظات اللقاء الأُولى تختلفُ من شخصٍ لآخر. لماذا اخترت هذا الشريك وليس غيره؟ يوجد أسبابٌ عديدة، منها واعيةٌ ومنها غيرُ واعية.
الغرام أو العشق هو مسيرةٌ غيرُ ناضجة، ممكنٌ فيها كلّ التأليهات التي تشكّل للإثنين، بنيّةٍ طيّبة، مصدرَ إغراءٍ للآخر لِجَذبه نحوي. تلعبُ دورًا هامًّا في هذه المسيرة حاجتُنا لأن نكون محبوبين، مُهمّين، حتّى نستطيعَ الدخول في علاقة تواصلٍ ومشاركة. فليس أهمّ في الحياة من أن يكون لنا شخصٌ فريدٌ مُمَيّز، تربطنا به علاقةٌ حميميّةٌ خاصّةٌ جدًّا، شخصٌ موقعُهُ فريدٌ في حياتنا، ومكانتُنا فريدةٌ في حياته.
على صعيد اللاّوعي، وبما يخصُّ الغرام، هناك نوعٌ من الإندهاش والإعجاب والشهقة للآخر. لكن، على صعيد الوعي، فهو يُمثّلُ، بشكلٍ خاصّ، التفتيشَ الأنانيّ عن سعادتي مع الآخر. أحبُّكَ لأنّك تفهمُني، لأنّك تريحُني… أنتَ أجملُ شخصٍ رأيته، وأذكى، وأنضج، وأكثر تهذيب… أنت لست مثل الآخرين، لذلك أحبّك.
الغرام والعشق مرحلةٌ أساسيّةٌ في العبور نحو الحبّ الحقيقي، لأنّ لا أحد يستطيع أن يُحبَّ شخصًا من دون أن ينجذب إليه جسديًّا وفكريًّا وروحيًّا وإنسانيًّا. لكنّ أيَّ التزامٍ نهائيٍّ في حياة مشتركة في الزواج، مبنيٍّ فقط على هذا الإنجذاب، فيه خطرٌ كبيرٌ على استمراريّة العلاقة. وهذا ما نشهدُهُ بكثرةٍ في الزواج السريع والزواج المُبكّر والزواج المصلحة.
في الحقيقة، إنّ العشقَ يجبُ أن يفتحَ الطريق إلى تواصُلٍ حقيقيٍّ بين الشخصين يُمكّنُ كلٌّ منهما الآخر من الدخول إلى عالمه الحقيقيّ لِيَلتَقيه كما هو، لا كما يتصوَّرُه. لذلك، فكلٌّ منهما مدعوٌّ لمعاشرة الآخر آخِذًا الوقت الكافي حتّى تتحوَّلَ العلاقةُ به إلى صداقةٍ حقيقيّة، تُمكّن كلاًّ منهما من الوصول إلى إدراكٍ عميقٍ وليس سطحيٍّ لشخصيّة الآخر الواقعيّة: عائلته، أصحابه، بيئته، عمله، تصرّفاته وردّات فعله.
الصداقةُ الحقيقيّة هي كنزٌ لا يفنى. لذلك أمام هذا الصديق الذي يهمُّهُ خيرَكَ الشامل، يحفظُ الأمانة لك ولا يخونك، ويحفظُ سرَّكَ ولا يستهويه استغلالَ ضعفك أو إستفزازِكَ ووضع الإصبع والعبث بجروحك، لا يمكنك سوى أن تكون صريحًا وشفّافًا وصادقًا. لذلك، الحبّ يبني الصديقين بقدر ما يعيشان حوارًا متبادلاً صريحًا وشفّافًا، وبقدر ما يشاركان سويّةً في بعض النشاطات والإحتفالات العائليّة والإجتماعيّة، تاركين مسافةً حقيقيّةً بينهما، تسمحُ لكلٍّ منهما أن يرى الآخر كما هو في تفاعله مع الآخرين، ويَبْنيهِما بقدر ما يبدآن في اكتشاف أحدهما للآخر على حقيقته، على ما هو عليه في غناه وفقره، في قوّته وضعفه، في حسناته وسيّئاته.
الحبُّ الحقيقيّ يبدأ مع مرحلة العبور إلى حالةٍ داخليّة، يتّفقُ فيها القلبُ والعقلُ على أنّ هذا هو الشخص الذي يعطي معنًى لوجودي بالرغم من أنّه لا يعجبني في هذا الأمر، وبالرغم من أنّه ينقصه هذا وذاك، لكنّ لسانَ حالي يصبح: أحبّك لأنّك… وبالرغم من أنّك لا…
الحبّ الحقيقيّ إذاً يبدأ مع التحوّل الذي أبدأ بِعَيْشِه على مستوى الإحساس الداخليّ، والطموح، والعيش، والرغبة :عندما أبدأ بالسَعْيِ لإسعاِد الآخر لا نفسي، والتفكير بكيفيّة إسعاده، لا إذا كان هو يُسعدُني.
يبدأ الحبُّ الحقيقيّ عندما أصبحُ مستعدًّا لأبذُلَ حتّى ذاتي في سبيل خيرِ الآخر وراحتِه، بدل التفتيش عن إشباعِ رغباتي وتحقيقِ مصلحتي الشخصيّة وراحتي.
أحبُّك، يعني أنا مستعدٌّ أن أعطيكَ ذاتي، أن أمَلّكَكَ على حياتي وأن أسلِّمَكَ مصيري، لأنّك أصبحت أنتَ محورَ وجودي لا “الأنا” الذاتيّة.
عبير وطوني الخوري