ولد يوحنّا الذهبيّ الفم في أنطاكية سنة ٣٥٤ ومارس النسك وسُيِّمَ أسقفًا على القسطنطينيّة. توزّعت مؤلّفاته على أبحاثٍ في الندامة والكهنوت والزواج والمجد الباطل والحياة الرهبانيّة… عُرف أنّه كان طبيبًا ماهرًا في الأخلاقيّات، يعالجُ الناس بلطفٍ وصراحةٍ وصرامة. إنّه رسول الشعب. إخترنا من كتاباته نصًّا (العظة ٤٧) والتي يتحدّث فيها عن الصوم، يقول:
“إنّ من الواجب علينا أن نعرف مقاصد أصوامنا، فال نكون كالتائهين في البحر، يتوّهّمون أنّهمم إلى المدينة قاصدون، وهم في متّجهٍ آخر هائمون. فإن قلت: ما الصوم في الحقيقة، أهو غير الإمتناع عن الطعام وقتًا محدودًا؟ قلت: ألصوم هو الإمساك عن جميع الرذائل والتمسّك بجميع الفضائل، منبع النفس عن اللذّات البدنيّة كالأطعمة والأشربة وسواها.
وعلى ذلك قول الله لبني إسرائيل، إذ كانوا يظنّون أنّ الصوم هو الإمتناع عن الطعام حتّى الليل فقط، ثمّ يقبلون على الطعام يأكلون ويشربون. فيبكتهم االله قائلاً: ها سبعون سنةً مرّت، ألعلّكم صمتم لي فيها صومًا، يا إسرائيل، وإن أكلتم وشربتم، أفلستم أنتم تأكلون وتشربون؟
ليس الصوم أن يضع الإنسان نفسه ويحني عنقه ويفترش له مسحًا ورمادًا، بل أن تحُلَّ أغلال الإثم، وتقطع رُبُط الظلم، وتُجانب المِكرَ والغشّ، وتُعتقَ المستبعدين، وتكسر خبزك للجائع، وتؤويَ الغريب إلى بيتك، وتنصفً الأيتام والأرامل، ولا تتغاضى عن لحمك ودمك. فإن تفعل ذلك، فيشرق نورك في الظلمة، ويظهر برُّك سريعًا، وينفجر ضياؤك مثل الصبح، وتجمع كرامة الربّ شملك، ويدبّرك الله تدبيرًا صالحًا، وتشبع نفسك من الخصب، وتصير كالبستان الذي تموج أغصانُه نُضرةً، وكينبوع الماء الذي لا ينقطع. وتبني من خيراتك الخرب التي خربت منذ القديم، وتقيم الأساس الذي سقط من أوائل الزمان.
فإذا كان هذا قول الله لأولئك الذين مواعيدهم جسديّة، فما عساه يقول لنا؟ وإذا كان لم ينظر إلى أصوامهم سحابة سبعين سنةً لخلوّها من هذه الفضائل، فكيف يبالي بأصوامنا؟ وإلى مثل هذا أشار ربّنا، قال: إنّ الصوم مع الصلاة يخرج الشيطان. فسبيلُنا أن ننهض من غفلتنا ونحافظ على الأصوام المرضيّة لإلهنا، لنفوز بنعيم ملكوته، الذي له المجد إلى الأبد آمين”.
إعداد ريما السيقلي