إلامَ يدعونا رؤساء الكنيسة خلال الصوم الكبير عام٢٠٢۳؟ لقد اخترنا مقتطفاتٍ من كلّ رسالة وجّهها كلٌّ من البابا فرنسيس رئيس الكنيسة الكاثوليكيّة، والبطريرك المارونيّ بشارة الراعي، والبطريرك السريانيّ الكاثوليكيّ جوزيف الثالث يونان، ومن العراق البطريرك للكلدان الكاردينال لويس ساكو.
زُهْدُ الصَّوم، مسيرةٌ سينوديّة
“نحن مدعوّون في الزمن الأربعينيّ إلى أن “نَصعَد إلى جبلٍ عالٍ” مع يسوع، لكي نعيشَ مع شعب الله المقدّس خبرة زُهدٍ خاصّة. علينا أن نتركَهُ يقودنا وينفرد بنا في مكانٍ عالٍ، فنتجرّد عن الفتور والزهوّ. علينا أن نضعَ أنفسنا في مسيرة صعود، تتطلّبُ جُهدًا وتضحيةً وتركيزًا، مثل أيّ رحلةٍ في الجبال.
نقول إنّ مسيرة صومنا هي “سينوديّة”، لأنّنا نقوم بها معًا وعلى الطريق نفسه، كتلاميذٍ للمعلّم الواحد.
ونصل هنا إلى قِمّة الحديث. روى الإنجيل أنّ يسوع “تَجَلَّى بِمَرأًى مِنهُم، فأَشَعَّ وَجهُه كالشَّمس، وتَلألأَت ثِيابُه كالنُّور” (متّى ۱٧، ٢). هذه هي “القمّة”، وهدف المسيرة. لذا، أودّ أن أقترح “مسارَيْن” نتبعهما:
الأوّل، يُشير إلى فعل الأمر الذي وجّهه الله الآب إلى التّلاميذ على جبل طابور، وهم يشاهدون يسوع متجلّيًا. قال الصوت من الغمام: “لَهُ ٱسمَعوا” (متّى ۱٧، ٥). إذن، الإشارة الأولى واضحةٌ جدًّا: أن نستمعَ إلى يسوع. الزّمن الأربعينيّ هو زمنُ نعمةٍ بالمقياس الذي فيه نستمع إليه، هو الذي يكلّمُنا.
وكيف يكلّمُنا؟ أوّلًا في كلمة الله. وبالإضافة إلى الكتاب المقدّس، يكلّمُنا الربّ يسوع في الإخوة، ويمرّ أيضًا من خلال استماعنا إلى الإخوة والأخوات في الكنيسة، ذلك الإستماع المتبادل الذي هو الهدف الرّئيسي في بعض المراحل….
والثاني هو الزّمن الأربعيني المُتّجه نحو الفصح: لا نلجأ إلى تديّنٍ قائمٍ على خوفٍ في مواجهة الواقع بصعابه اليوميّة وقساوته وتناقضاته. النور الذي أظهره يسوع لتلاميذه هو استباقٌ لمجد عيد الفصح. ونحو هذا المجد يجب أن نذهب، ونتبعه “هو وحده”. “الخَلْوَة” تُهيّئُنا لكي نعيشَ الآلام والصليب بإيمانٍ ورجاءٍ ومحبّة، حتّى نصل إلى القيامة.
المسيرة السّينوديّة أيضًا، يجب ألّا توهمنا أنّنا وصلنا عندما يعطينا الله نعمة بعض الخبرات القويّة في الشّركة والوَحدة. هناك أيضًا الرّبّ يسوع يكرّر ويقول لنا: “قوموا، لا تَخافوا”. لِننزل إلى السّهل، ولْتسندنا النّعمة التي اختبرناها لنكون صانعي سينوديّة في حياة جماعاتنا العاديّة”.
مقتطفاتٌ من رسالة البابا فرنسيس – روما
ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان (متى٤،٤)
“يتّضح أنّ الإنسان بحاجة في آن إلى خبزين، لا يمكن الإستغناء عن أيّ منهما للعيش: الخبز الماديّ وخبز كلمة الله.
الخبز الماديّ، هو اليوم حاجة شعبنا الجائع، وغيره من شعوب الأرض، بسبب الأزمات السياسيّة والإقتصاديّة والمعيشيّة والماليّة، وبسبب الحروب والتهجير والتشريد وهدم البيوت، وبسبب عوامل الطبيعة كالزلزال الذي أصاب تركيا وسوريا. ولذا، زمن الصوم الكبير هو زمن خدمة المحبّة.
الحاجة الثانية الضروريّة مع الأولى، بل تفوقها، هي “الجوع إلى كلّ كلمةٍ تخرج من فم الله”. يسوع، عندما صام عن الخبز الماديّ، كان يغتذي من كلام الله، من إرادة الآب حتّى تماهى بالكليّة مع الكلمة، بل هو إيّاها، فأصبحت جسده في سرّ القربان.
عندما صام يسوع أربعين نهارًا وأربعين ليلًا، كان في حالة صلاة. فالصيام يقتضي الصلاة، لكي ينفتح الإنسان على كلام الله ويصغي إليه بقلبه، ولكي تحيا فيه محبّة الفقراء فيمدّ لهم يد الصدقة. صومٌ وصلاةٌ وصدقة، هذا المثلّث يشكّل كيان الصوم الكبير. وهو كيان لا يقبل التجزئة”.
مقتطفات من رسالة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي – لبنان
أريدُ رحمةً لا ذبيحة (هوشع٦:٦)
“في زمن الصوم، نتذكّر صوم الربّ يسوع في البرّية وانتصاره على إبليس، وتشكّل قمّةَ الصوم المصالحةُ وترميمُ العلاقة مع الله والذات والإخوة، بإعادة ترتيب سُلّم الأولويات في حياة كلّ مؤمنٍ ومؤمنة. بالصوم والصلاة والتقشّف وسماع كلام الله نهذّب الذات، وبالصلاة والتوبة نجدّد علاقتنا بالله كأبناء، وبأعمال المحبّة والرحمة نقوّي روابط الأخوّة مع القريب.
كما أنّنا مدعوون أن نبتعد عن كلّ ما يُعيق مسيرتنا نحو الله، ونحرّر حياتنا من كلّ ما يُثقِلُها، بإخلاصٍ تامّ وتوبةٍ صادقة، ونقبل بقلبٍ منفتحٍ محبّةَ الله التي تجعل منّا إخوة وأخوات. ولنتذكّر أنّ كلّ ما يريده الله منّا هو قلبنا، فهو يقول لنا: “يا ابني أعطني قلبك”. إنّ الله لا يريد الذبائح التي نقدّمها بطريقةٍ شكليّة، فيما يتجاهل قلبُنا نداءَ المحبّة، ولكنّه يريد رحمةً، أي قلباً مملوءًا حبًّا ثابتًا..
وما أكثر أوقات الشدّة والموت في عالمنا اليوم، وخاصّةً بعد الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وسوريا… يُبدِّد الله ظلمة الخوف. فلا نخافنَّ ولا نرهَب لأنّه “سائرٌ أمامنا، وهو يكون معنا، ولا يُهملنا ولا يتركنا”.
بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان – لبنان
الصوم مسيرة توبة وتغيير سلوك وتوجيه الحياة نحو الله، والتمسّك بكلدانيَّتنا
“يُعرف الصوم بأنّه زمن الرجاء، والصوم لا يقتصر على الجانب الماديّ فحسب، إنّما الأهمّ هو العبور إلى الطابع اللاهوتيّ والروحيّ للتغلّب على التحدّيات التي يواجهها. وكيف ذلك؟
۱- عبر دراسة كلمة الله، بقلبٍ طيّبٍ وشوق، والتعمّق فيها، واكتشافِ بلاغاتِها، ومشاركة الآخرين في ما اكتشفناه.
٢- عبر المواظبة على الصلاة. من دون الصلاة لا فائدة من أن نكون مسيحيّين، ولا نستطيع الدخول في علاقةٍ وجدانيّةٍ مع الله. فالصلاة من فعل وَصَلَ – صِلة. مسيرة المؤمن مطبوعة بالصلاة، لأنّ الإيمان يقود الى الصلاة. من لا يصلّي لا يفهم الإيمان. الصلاة لا تنفصل عن الحبّ، ومن يعرف معنى الحبّ، هو وحده يقدر أن يصلّي، لا بشفتيه فحسب، بل بكلِّ كيانه. الصلاة تعني ان الله حاضرٌ في حياتنا. لأنّها علاقةٌ حيّة، وشركةٌ روحيّةٌ مع الله، بعيدًا عن أعتبارها واجبًا وفرضًا علينا.
۳- عبر التوبة، وتعني الإنتماء الى يسوع والتتلمُذ له عبر الإهتداء الدائم بالإقرار بالخطايا وإصلاح الذات، ومغفرة زلّات الآخرين ومصالحتهم.
٤- عبر محبّة الفقراء – الصدقة. الصوم هو زمن الصدقة التي هي ركنٌ أساسيٌّ له. الصوم مناسبةٌ لمساعدة المحتاجين بما وفّرناه بصيامنا.
أهمية التمسّك بهويّتنا الكلدانيّة
الكلدان في كلّ مكانٍ بأمسّ الحاجة الى التوعية والتمسُّك بكلدانيتهم … هذه العودة إلى الينابيع الصافية تتطلّب قراءةً لتاريخنا وتراثنا الروحيّ والليتورجيّ، قراءةً مُعمّقةً لإستخلاص العِبر لحياتنا اليوميّة، فالمستقبل تصنعه تراكمات ما تعلّمناه في كلّ الأزمنة. أخيرًا حيث يكون السلام والاُخوّة والمحبّة والفرح والإبتعاد عن كلّ أشكال الرذيلة، هناك يكون صومنا، فيملك الله في داخلنا.
البطريرك الكلداني الكاردينال لويس روفائيل ساكو – العراق
صومٌ مباركٌ للجميع ولتكن هذه الأيّام المباركة نعمةً ترافقُ أوقاتنا.
إعداد شارلوت فرحات