دكتور دولة في التاريخ من جامعة سْتْراسْبورغ. أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر وعميد سابق لكلّية التربية في الجامعة اللبنانيّة. مؤسّس كرسيّ الأونسكو للعلوم التربويّة وأستاذ سابق له. أستاذ زائر في جامعة سْتْراسْبورغ، في جامعة الروح القدس – الكسليك وفي المدرسة الحربيّة.
شارك في عشرات المؤتمرات في لبنان والخارج وله مؤلّفات عدّة وأبحاث تاريخيّة منشورة بالعربيّة والفرنسيّة.
كلَّمَنا عن الحياة الرهبانيّة، عن الدور التاريخيّ لأديار لبنان، عن أهميّتِها في وقتنا الحاضر، وختم مُعلّقًا ومُشدِّدًا على دور القِيَم الرهبانيّة كخميرةٍ لخلق عالمٍ جديد
١- الحياةُ الرهبانيّة في الشرق: ما هي أنواعُها وأبرزُ مراحل تطورّها؟
إنّ الحياة الرهبانيّة المسيحيّة نشأت أساسًا في الشرق، وترافقت نشأتُها وتطوّرُها مع انتشار الدّين المسيحيّ في هذه النواحي. بدأتْ مع ممارسة بعض المؤمنين لحياة الزهد، مهما كانت حالُهم الإجتماعيّة، عزّابًا أو متزوّجين، علمانيّين أو رجال دين. ثم تطوّرت مع أواخر القرن الثالث الميلاديّ حيث ترك بعضُ الزهّاد محيطهم العائليّ والإجتماعيّ لممارسة حياة النسك في الصحراء. في البداية، لم تكن هناك قوانين لتنظيم الحياة الرهبانيّة، بل كان الرهبانُ يتبعون تعاليمَ مَن سبقهم في حياة الزهد والنسك وإرشاداتهم. يمكن تحديد التقاليد الرهبانيّة الأساسيّة التي نشأت في الشرق وتصنيفها بثلاثة أنماط:
أ- النمط المصريّ مع القدّيس أنطونيوس الكبير (٢٥١-۳٥٦ م.) وهو يُدعى “أبو الرهبان”.
تنسك لوحده في البريّة منصرفًا إلى الصلاة والتأمّل. أمّا القدّيس باخوميوس (٢٩٠-۳٤٦م.) الذي عاش أيضًا في مصر فكان أوّل من دعا إلى إنشاء حياةٍ رهبانيّةٍ مشتركةٍ داخل الدير، ووضع لها قوانين تُنظّم نشاط الجماعة الرهبانيّة بين الصلاة والعمل.
ب- النمط السريانيّ (السوريّ) وكانت بدايتُه في سوريا مع القدّيس إفرام (۳٠٦-۳٧۳م.). نشأ في القرن السادس مستقلاًّ عن التأثيرات الخارجيّة، بخاصّةٍ التأثّر بالحياة الديريّة المشتركة التي دعا إليها القدّيس باخوميوس. من أشهر أتباع النمط السريانيّ القدّيس مارون الناسك وقد أسّس أتباعه الكنيسة المارونيّة.
ج- النمط الباسيليّ مع القدّيس باسيليوس (۳٢٩-۳٧٩م.) الذي عاش في آسيا الصغرى، وفضّل
الحياة الديرِيّة المشتركة على حياة التوحُّد. دعا الرهبان إلى عيش قيم الإنجيل وممارسة فضيلة المحبّة تجاه الله وكلّ قريب.
٢- كيف توّزعت الأديار في سائر أنحاء لبنان؟ ومتّى تمّ ذلك؟
إنتشر الدّين المسيحيّ في لبنان منذ بدايته، لكنّ حياةَ الترهُّب بدأت بالظهور منذ أواسط القرن الرابع. من الصعب تحديد تاريخ البدء ببناء الأديار، لكنّه من المعروف أنّ أوّل ديرٍ مارونيٍّ تمّ بناؤه في لبنان هو دير مار مارون، على ضفاف نهر العاصي في منطقة الهرمل، وذلك حوالي سنة ٥٢٠م.
منذ بدايتها وحتّى أواخر القرن السابع عشر لم تكن الحياة الرهبانيّة في لبنان منظمّةً بموجب قوانينَ مكتوبة. كان الرهبان يعيشون في المناسك والأديار بحسب عاداتٍ وتقاليد، يُطبّقها كلّ على طريقته، كما أنّه لم يكن هناك لباسٌ رهبانيٌّ مُوَحّد أو نذورٌ إحتفاليّة. لم تُفرَضْ على أيّام البيزنطيّين قيودٌ لإنشاء الأديار، فانتشرت في المناطق اللبنانيّة المختلفة. أمّا بعد ظهورالإسلام وانتشاره في القرن السابع فقد تقلّص وجودُ الأديار، وانحصر إنشاءُ أديارٍ جديدةٍ في مناطقَ منعزلةٍ من جبل لبنان تَجَنّبًا للمضايقات. بعد نهاية حكم المماليك وبداية الحكم العثماني (١٥١٦-١٩١٨) تمتّع جبل لبنان بإدارةٍ ذاتيّة، وزاد انتشار الأديار فيه بخاصّةٍ أنّه كان ممنوعًا بناء أديارٍ جديدةٍ في المناطق العربيّة المجاورة الخاضعة للحكم العثمانيّ المباشر.
هناك عواملُ دينيّةٍ وسياسيّةٍ واقتصاديّةٍ عدّة، ساعدت في نشأة أديارٍ جديدةٍ في مناطق جبل لبنان المختلفة في عهد الأمراء المعنيّين والشهابيّين.
وأبرزُها :
أ- نشأة الرهبانيّات القانونيّة الكاثوليكيّة منذ أواخر القرن السابع عشر بتشجيعٍ من المُرسلين الأوروبيّين ودعمٍ من روما. تأسّست الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة في دير مارت مورا في إهدن سنة ١٦٩٥، والرهبانيّة الأنطونيّة المارونيّة في دير مار آشعيا في برمانا سنة ١٧٠٠. أمّا الرهبانيّة الباسيليّة المخلصيّة فقد تأسّست أوّلاً في أبرشيّة صيدا الملكيّة ثم انتقلت إلى دير المخلّص في جون سنة ١٧١١. كما تأسّست الرهبانيّة الباسليّة الشويريّة في دير مار يوحنا في الخنشارة، سنة ١٧١٠، وجمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة في دير الكريم في غوسطا، سنة ١٨٦٥، وجمعيّة المرسلين البولسيّين في دير القدّيس بولس في حريصا، سنة ١٩٠۳. نشأ كذلك العديد من الرهبانيّات النسائيّة، وكانت تضمّ في أغلبيّتها راهباتٍ محصّناتٍ يَتبَعْنَ نظامَ الصلاة والعمل داخل حصن الدير، ثمّ انتقلْنَ إلى العمل الرسوليّ والخدمة الإجتماعيّة منذ أواسط القرن العشرين.
ب- الإدارة الذاتيّة التي كان يتمتّع بها جبل لبنان في العهد العثمانيّ سمحت بإنشاء أديارٍ جديدة، بينما كان ذلك ممنوعًا في سائر الولايات العربيّة.
ج- شجّع المقاطعجيّون الدروز إنشاءَ أديارٍ في مناطقهم وذلك للمساعدة على تنميتها إقتصاديًّا لأنّ الرهبان اشْتُهروا بالزراعة واسْتصْلاح الأراضي البور. وكانت ضريبة الميري تُفرضُ على إنتاج الأرض، فزيادة الإنتاج الزراعيّ يزيد في المداخيل الضرائبيّة ومن مداخيل المقاطعجيّين.
۳- ماذا عن دور الأديار في تاريخ لبنان؟
كان للأديار دورٌ مهمٌّ على الصعيدَيْن الدينيّ والإنمائيّ.
١- على الصعيد الدينيّ: إنّ وجودَ الأديار في المناطق اللبنانيّة المختلفة من الشمال إلى الجنوب، ساعد على انتشار الوجود المسيحيّ ونشأةِ قرى ذات أغلبيّةٍ مسيحيّةٍ في العديد من المناطق كانت سابقًا أكثريّة سكّانها من الدروز أو المسلمين. كان الرهبان يساعدون في بناء كنائسَ جديدةٍ ويقومون بخدمة الرعايا. إلى جانب الخدمات الروحيّة كان الدير يؤمّن العمل للفلاّحين والتعليم لأولادهم .
٢- على الصعيد الإنمائيّ:
أ- ساهم الرهبان في تنمية الريف اللبنانيّ إذ حوّلوا العديد من الأراضي البور الوعرة الإنحدار إلى جلولٍ وبساتينَ خصبةٍ تؤمّن لهم ولشركائهم حاجات المأكل والملبس وتُوفّر إكتفاءً ذاتيًّا يَضمنُ لهم الأمان والحريّة.
ب- حتى أوائل القرن العشرين كان العملُ في الأرض جزءًا من حياة الرهبان اليوميّة. وبما أنّ أراضي الأديار الزراعيّة الواسعة لم تكن معفاةً من الضرائب، فقد ساهمت بنسبةٍ كبيرةٍ في مداخيل حكّام المناطق وساعدت في التخفيف من أعباء الفلاّحين.
ج- إهتمّ الرهبان بفتح المدارس في المدن والقرى المختلفة، حتّى أنّ بعض الرهبانيّات أسّست جامعاتٍ تُعدُّ اليوم من الأرقى والأهمّ في لبنان.
د- لم يتوقّفْ دورُ الرهبانيّات الثقافيّ عند فتح المدارس والجامعات، فكانت الأديار رائدةً في إدخال الطباعة إلى لبنان والشرق. أوّلُ مطبعةٍ عربيّةٍ بالحرف السريانيّ رأت النور في لبنان في دير مار أنطونيوس قزحيّا، سنة ١٦١٠. ثمّ أنشأ الشماسُ عبدالله الزاخر أوّل مطبعةٍ بالحرف العربيّ في دير مار يوحنا الخنشارة سنة ١٧۳۳.
ه- تعاطى بعضُ رهبان الأديار الطبَّ العربيّ بالأعشاب، واشتُهِرَ العديدُ منهم في هذا المجال. كما أنّ رهبانيّاتٍ نسائيّةٍ أو رجاليّةٍ باتت تمتلك العديد من المستشفيات الكبرى الخاصّة في لبنان واستلمت إدارتها.
و- إشتُهرَتْ الأديار بحُسن الضيافة للمحتاجين وعابري السبيل. وفي الحرب العالميّة الكبرى، أمّنت الغذاء يوميًّا للجياع، ورهنت بعض الرهبانيّات أراضيها لمُجابهة آفة المجاعة.
ز- بعد الحرب العالميّة الثانية عمدت الرهبانيّاتُ إلى تمليك الشُركاء الذين يعملون في زراعة الأراضي التي كانوا يستثمرونها وذلك بأسعارٍ منخفضة.
٤- أهمّية هذه الأديار تكمن بأنّها اليوم حافظةٌ للتراث والذاكرة؟
– إلى جانب دور الأديار الدينيّ والإجتماعيّ، تبرز أهمّيتها في حفظ التراث الثقافيّ، عن طريق مكتباتها الغنيّة بالمخطوطات القديمة التي حفظت الكثير من المعارف من الضَياع. في زمن انحطاط اللغة العربيّة وتردّي الإنتاج الفكريّ، بقِيَتْ شعلة الثقافة محفوظةً في الأديار بفضل رهبانٍ علماء نسخوا المخطوطات وحافظوا عليها بعناية. كما ساهموا في قيام عصر النهضة وانبعاث اللغة العربيّة ونشر المعرفة عن طريق المدارس والمطابع.
– إنّ مكتبات الأديار غنيّةٌ أيضًا بالسجلّات والوثائق القديمة ودفاتر اليوميّات التي تُعتبر بالنسبة إلى الباحثين مصادر مهمّة وموثوقة لكتابة تاريخ لبنان. وهي تشكّلُ جزءًا من التراث الوطنيّ التاريخيّ والثقافيّ.
– الأديار هي بالنسبة إلى العديد من أهل الريف أماكن مهمّة لذاكرتهم الجماعيّة التي يستحضرُ وجودُها ماضيًا جماعيًّا عاشوا فيه مع الرهبان أحداثًا مؤثِّرة، لها رمزيّتُها العاطفيّة: كان أهلُهم شركاءٌ في أراضي الدير الزراعية، تعلّموا في مدرسته ومارسوا الشعائر الدينيّة في كنيسته أو لجأوا إليه في الحروب والكوارث.
– تخطّت بعض الأديار صِفتَها الطائفيّة لتُصبحَ مَزارًا يقصدُهُ المؤمنون من جميع الطوائف لطلب شفاعةٍ أو شفاءِ مريض، كمزار القدّيس شربل في دير مار مارون – عنّايا. كما كان لبعضها دورٌ وطنيٌّ في مواجهة الإحتلال والظلم كَدَير مار الياس في أنطلياس حيث اجتمع الثوّار المسيحيّون والدروز والمسلمون، في ٨ حزيران ١٨٤٠، وأقسموا جميعًا اليمين في الحفاظ على الأمانة ووحدة الصف أمام مذبح كنيسة الدير، وذلك لمجابهة جيش إبراهيم باشا والتخلُّص من الحكم المصريّ.
٥- هل للقيم الرهبانيّة دورٌ في خلق عالمٍ جديد؟
في عالم اليوم الماديّ الذي طغت فيه القيم الماديّة على حساب الكرامة الإنسانيّة، ما أحْوَجَنا إلى القيم الرهبانيّة للمساهمة في خلق عالمٍ أفضل. في صخب وسائل الإعلام وتواتُر أخبار الأوبئة والحروب والكوارث الطبيعيّة، نشعر أكثر بأهميّة الصمت والصلاة والتأمّل والرحمة والتضحية وبساطة العيش، بعيدًا عن البذخ والترف. تساعد الروح الرهبانيّة على توفير حياةٍ أكثر هناءً وسعادة، مع توازنٍ أكبر بين الإكتفاء والإنفتاح في العلاقة مع الآخر.
عيشُ القيم الرهبانيّة يجعلنا نشعرُ أكثر بقيمة الحياة الجماعيّة بعيدًا عن الأنانيّات والروح الفرديّة، ويدفعُنا إلى تفضيل “النحن” على “الأنا” في عَيْش شراكةٍ أخويّةٍ إنسانيّةٍ تسمو بنا نحو الأعلى، نحو الله.
في حوار مع شارلوت فرحات