أعطى يسوع أهميّة كبرى لحدث الإفخارستيّا… أسَّسه في الليلة التي أُسلِمَ فيها أثناء عشاءٍ أعدَّه بكلّ عناية. خلاله قال لتلاميذه: “إشتهيتُ شهوةً شديدةً أنْ آكُلَ هذا الفِصْحَ مَعَكُم قبلَ أنْ أَتألَّمَ”. ولقد قام بهذا في جوٍّ من الرهبة والخشوع.
يجعلنا هذا المشهد نُدركُ أهميّةَ سِرِّ الإفخارستيّا في نظر يسوع.
كثيرًا ما تأمّلتُ في كتاباتٍ حول يسوع الإفخارستيّا، من أقوال آباء الكنيسة والبابوات إلى ما جاء في المجمع الفاتيكانيّ الثاني، وتوصّلتُ إلى تكوين فكرةٍ عن كلّ ما قيلَ حول هذا السرّ العظيم.
إنّ دورَ الإفخارستيّا هو تحقيقُ الوحدة. ونكتشفُ أهميّتها حين نعيشُ هذا السرّ من خلال الوحدة ومن أجلها.
إليكم بعض ما كتبت حول هذا الموضوع:
“لا تحملُ الإفخارستيّا ثمارًا حلوةً وصالحةً لروحنا وحسب، لأنّها لم تُؤَسَّس من أجل هذا الهدف، وهي لا تحمل ثمارَ قداسةٍ ومحبّةٍ وحسب، فليست تلك فقط غايتُها. وليس هدفُها الآساسيّ أن تُنَمّيَ وحدتنا مع الله وبين بعضنا البعض، ولا أن تُقوّيَ حضورَ يسوعَ وسط إثنين أو ثلاثةٍ إجتمعوا بإسْمِه. للإفخارستيّا دورٌ آخر. هدفُها أن تجعلنا “الله”. إنّها تمزجُ جسدَ المسيح ودمه، اللذَيْن يُحْيِيهما الروحُ القدس، بجسدنا ودمنا، وبدورهما يُحْيِيانَنا. إنّها تؤلِّهُنا روحًا وجسدًا.
نحن نعلم أنّ الروحَ القُدُس يُحيي جسدَ يسوع وهذا الجسد بدوره يُحْيِينا، فمن خلال الإفخارستيّا نتغذّى من يسوع ونمزجُ جسدَنا ودمَنا مع جسدِ يسوعَ ودمِهِ وروحَنا مع روحِه. وكم ردّد القدّيس توما الأكويني فكرةَ المزجِ هذه بين جسدِ المسيح وجسدِنا. فهو يقول مثلاً: “إنّ التأثيرَ الخاصّ للإفخارستيّا هو أنّها تُحوّلَ الإنسان إلى إله”.
فاللّه لا يستطيع أن يكون إلاّ في الله. نحن نستطيع أن نعيش هذه الحقيقة إذا توصّلنا في يومٍ من الأيّام أن “نكون الله” بفضلِ مناولتِنا المُستحِقّة للإفخارستيّا. “لا يستطيع الله أن يكون إلاّ في الله”. لأَنّ الله لا يُمكنه أن يكون مقسومًا على ذاته. فيسوع الإفخارستيّا في بيت القربان الذي هو بقربنا هو نفسُهُ يسوع القائم من الموت والجالس عن يمين الآب والذي ما يزال يحمل آثارَ الآلام والموت.
نظرتُنا إلى هذه الحقيقة تجعلُنا ندخل الكنيسة باحترامٍ كبير… لأنّنا هناك نلتقي يسوعَ الجالس عن يمين الآب.
للإفخارستيّا مهمّةٌ كبيرة، ألا وهي تحقيق الوحدة، لأنّها تُدخِلُ الإنسانَ في المسيح. ويتكلّمُ آباءُ الكنيسة عن “قيام الإنسان في المسيح”. والمسيح هوَ في الآب. وهذا كلّه سرُّ الوحدة. فالإفخارستيّا تُحقّقُ الوحدة بين جسدنا ودمنا، اللذَيْن يُحييهما الروح القدس، مع جسد المسيح ودمه.
وفي الوقت نفسه لا تُحقّق الإفخارستيّا هذا الأمر مع شخصٍ بمفرده ولكن مع عدّة أشخاص. وهم، لأنّهم كلُّهم “الله” يصيرون واحدًا. والإفخارستيّا لا تمحو شخصيّة الأفراد المميّزة، إنّما الحجاب الذي يفصلُ بين الأشخاص يُصبحُ شفّافًا جدًّا فلا نعودُ نراه. وفهمتُ اليوم لماذا تبقى شخصيُّتنا بفرادَتِها ولا تختفي، لأنّنا في السماء سوف نستطيع القول يومًا بأنّنا اسْتَحْقَقْنا الجنّة بفضل حُرّيَّتِنا.
نقرأ عن اختبار القدّيسة تريزيا الطفل يسوع مع الإفخارستيّا: “في ذلك اليوم، تحوّلت النظراتُ إلى انصهار، لم يعودا اثنَيْن بل اختفت تريزيا مثلما تضيعُ نقطةُ ماءٍ في البحر. بقيَ يسوعُ وحده، كان هو السيّد والملك. تريزيا صارت يسوع بعدما تغذّت من الإفخارستيّا”. نعم، لأنَّ القويّ يأكلُ الضعيف، ويتغلّبُ عليه. وفي اتّحادِنا مع المسيح، إذا تناولنا القربان باستحقاق، وتركنا الإفخارستيّا تُحقّقُ مفاعيلها، سوفَ تنتصر فينا ونصيرُ بدورنا إفخارستيا.
لا تُحقِّق الإفخارستيّا إذًا هذا الأمر مع شخصٍ بمفرده ولكن مع عدّة أشخاص. وما هوَ الواقع الذي يترتّب عن ذلك وتُحقّقُه الإفخارستيّا؟ إنّها الكنيسة. ما هي الكنيسة؟ هيَ “الواحد” الذي تُحقّقه الإفخارستيّا. وإذا أحببنا أن نُعطيَ مَثَلاً مأخوذًا من الكتاب المقدّس، مُعبَّرًا عنه بكلماتٍ بشريّة، نقول: الكنيسة هي جسد، رأسُهُ المسيح المُمَجّد.
بفضل تناوُلِنا للقربان كلَّ يومٍ بشكلٍ أفضلَ من اليوم السابق، سوفَ تتحقّق الوحدة ونضيعُ كُلِّيًّا في الله، مُؤلَّهين، واحداً مع المسيح ومع الآخرين. سوفَ نُصبحُ الكنيسة.
إنَّ الإنسانَ المسيحيّ، حين سيعيشُ هذه الخبرة سوف يحمل معه بدورِهِ كلَّ الخليقة، كونه هو خلاصة الخليقة.
إذًا كلُّ شيءٍ خرج من الله سوفَ يرجعُ إلى الثالوث من خلال الإفخارستيّا. هذه هي الإفخارستيّا”.
كيارا لوبيك