الأحكام المسبقة

إنّ عدم القدرة على فهمٍ حقيقيّ للشخص الذي أمامي يجعلني أطلق باتّجاهه أحكامًا مسبقة، ممّا يسبّب له وبكلّ تأكيد، جرحًا قد يترك وراءه آثارًا عميقة.
ما هو الحكم المسبق وما هي أسبابه؟
يمكننا التعريف بالحكم المسبق على أنّه الإدّعاء بفهم الآخر فهمًا مسبقًا، يستند على فكرةٍ كوّناها عنه إنطلاقًا من معلومات “غريزيّة” في ذهننا، ناتجةٍ عن أحاسيسنا وأفكارنا وعواطفنا وتجاربنا، قد لا يكون لها أيّة معايير منطقيّة، فيأتي حكمُنا على الآخَر منحازًا وتصرّفنا تجاهه عشوائيًّا، من دون إدراكٍ منّا ولا قدرةٍ على حسن التمييز.
يمكن أن نطلق حكمًا مسبقًا مبنيًّا على ما أخبرنا به آخرون عن الشخص الذي نلتقي به، فيتحوّل إلى فكرةٍ متسرّعةٍ تمنعُنا من تفهُّمه.
التباهي والغرور، أي اعتقادنا بأنّنا نمتلك المعرفة كلّها وأنّنا ندرك كلّ شيء، يضع برقعًا على أعيننا، ويقودنا إلى نوعٍ من التعصّب يمنعنا بالتأكيد من لقاء الآخر بالعمق، فيستحيل علينا التخلّص من الفكرة المسيطرة على فكرنا، ويصعب علينا الدخول إلى عالم الشخص الآخر والتعرّف إلى حقيقة واقعه.
كلّها اسبابٌ ترفع جدارًا بيننا وبين الآخرين، فتمنعُنا من رؤيتهم على حقيقتهم!

غالبًا ما نخفي وراء الإنتقادات والأحكام المسبقة، عدمَ قدرتنا وعجزنا عن فهم الجوهر العميق للشخص، فنستنتج أنّه ليس ذا قيمةٍ كبيرة.

يخبرنا صديق:
“كان المترو مكتظًّا بالناس، لذا كان من السهل أن تصغيَ إلى ما يدور من حولك. بالفعل، كانت سيّدةٌ متقدّمةٌ في العمر تُحدِّث صبيّةً في أوائل العشرينات، تسألها عن معنى الرمز الذي وضعته على قميصها. راحت الفتاة تشرح عن العمل الإجتماعيّ الذي تقوم به لخدمة من هم أكثر احتياجًا وبأنّها عضوٌ في مجلس الإدارة.
بعد أن نزلت تلك السيّدة ساد الصمت لوهلة. ومن ثمّ، راحت مجموعةٌ من أربعة أو خمسة أشخاص يتحدّثون في ما بينهم بصوتٍ شبهِ واضح. لم أسمع كلّ الكلمات التي استخدموها لكنّها ومن دون شكّ أزعجت الفتاة الشابّة، لأنّها وبجرأة، ردّت عليهم قائلةً بألاّ يستعملوا هذه الكلمات الجارحة ضدّ الناس المحتاجين. إعتذر أحد الرجال على ما بدر منهم، ولكن، ما إن نزلت الفتاة حتّى توالت التعليقات المبتذلة: “كان يجب أن أعطيها نقودًا حتّى تصمت”، “ستنضج وتكبر وسوف تسمع، في هذه الحياة، ما هو أسوأ بكثير”، وما إلى ذلك.
عانيتُ ممّا حدث وتساءلتُ إن كان عليّ أن أقول شيئًا للدفاع عن الفتاة، لكنّي خشيت أن يؤدّيَ ذلك إلى تفاقم الأمور… وساعة نزولي عند محطتي علّقت قائلاً: “لا زال أمامنا شوطٌ طويلٌ نقطعه”. وأثناء عودتي إلى المنزل رحت أتساءل عمّا حال دون أن تكون هذه المجموعة كريمةً في أخلاقها وتَفهُّمِها وتقديرِها؟ لربّما هو شعورُهُم بالخزي والخجل أمام ما بدر عنهم أمام باقي الركّاب؟ أم أنّ قلوبَهم لم تعرف التعاطف والتواضع بسبب تجاربهم الشخصيّة؟ أم…؟ كم من القيود تكبّلنا”.

يحتاج كلُّ واحدٍ مِنّا إلى إقامة علاقاتٍ شخصيّةٍ يشعر من خلالها بأنّنا نراه ونفهمه على حقيقته، وبذلك ينمو ويتمكّن من بناء الهويّة الخاصّة به وتثبيتها. إنّ الطبيعة البشريّة هي في الأساس “علاقة”، لذا نحن بحاجةٍ إلى رأي الآخرين. أن نواصلَ اكتشافَ هذه الأرضيّة المقدّسة فينا وعند الآخر، محاولين تفهُّم بعضِنا البعض، فنعيش من أجل مجتمعٍ أكثر عدالةٍ اجتماعيّة، نتيجة الحوار المستمرّ بين الذات والآخر”أنا-أنت”.
إنّ إيذاءَ الآخرين لا يجعلك أكثرَ سعادة، بل على العكس تمامًا.

تقول كارولين: “أودّ أن أشارك بشيءٍ حول الحبّ المتبادل. ذات مرّةٍ أوضح لنا أحدُهم أنّ حبَّنا لبعضنا البعض يجب أن يكون حبًّا إلهيًّا وليس حبًّا بشريًّا وحسب.
لنأخذ مثالاً على ذلك حتّى أوضح الأمر. أنا أنتظر وصول صديق ولقد تأخّر. ألحبّ البشريّ يجعلني أقول في نفسي: “لماذا تأخّر؟ كيف يجرؤ على جعلي أنتظر؟ لا أصدّق هذا! هذا غير مقبول…”. أمّا الحبّ الإلهيّ فيجعلني أقول: “صديقي تأخّر بالوصول، هل هو بخيرٍ يا ترى؟ ربّما حدث أمرٌ طارىء! ينبغي أن أتّصلَ به وأتأكّد بأنّه على ما يرام”.
هل يمكنك ان ترى تمايز الموقِفَيْن؟ الأوّل يركّز على ال”أنا” بينما يركّز الثاني على الشخص الآخر. ومن خلال الشخص الآخر أعيش حياتي وإيماني كما ينبغي.
أحاول أن أطبّق ذلك خلال حياتي اليوميّة. أذكر خبرةً مررتُ بها مع رجل الأمن في المبنى الذي أعمل فيه. معروفٌ عنه بأنّه شخصٌ فظٌّ ولا يبتسم أبدًا. لا أحد يُحبّه، والكلّ يشكو من سلوكه. في كلّ مرّةٍ أصل فيها إلى العمل، كنت أبتسم له وألقي عليه تحيّة صباح الخير. لم يردّ يومًا على تحيّتي، ولكنّني لم أتعب، وواصلت تقديم التحيّة الصباحيّة مرفقةً بابتسامةِ كلِّ يوم. بعد فترةٍ طويلة، بدأ يبتسم لي وأضحى شخصًا لطيفًا للغاية. كم كانت فرحتي كبيرة، يجب ألا نتعب أبدًا من القيام بالخطوة الأولى لملاقاة الآخر”.

هي طريقةٌ فعّالة لعيش ثقافة الإحترام وقبول الآخر والتعاطف معه بدل الحكم عليه. هي مهارةٌ تجعلك تختبر العيش بحريّة، هي مهارةٌ تساعدك كي تعرف كيف تخلقَ الأعذار للآخر كما تودّ أن يفعلَ هو لك، أن تعرف كيف لا تطلق الأحكام العشوائيّة على نفسك وبالتالي على الآخر…

هل تودّ تعلّم العيش من دون قيودٍ تثقلُ كاهلك؟ بالتأكيد. يتمّ ذلك مع التخلّي عن الأحكام والأحكام المسبقة والقيود الذاتيّة وإعطاء النفس فرصةً للإنفتاح على محبّة أكبر للقريب واعتماد مقاييس جديدة للتعاطي معه، مبنيّةٍ على المحبّة والتفاهم والرويّة في إطلاق الأحكام.

إعداد ريما السيقلي

Spread the love