الآخر

الآخر؟ وحشٌ يختبئُ في الضباب. نبتعدُ عنه، لا نكلّمُه، وإذا ما صادفناه يومًا لا ننسى الأساليبَ الدفاعيّة الثلاثة: “لا تقتربْ، لا تلمسْ، بلّغْ فورًا”. نخافه، نجهله، والحقُّ يُقال، إنّ له في قلوبنا نصيبًا من “اللاّحُبّ”. لكنّنا ربّما غفلنا عن فكرةٍ واحدة: الوجهُ الآخر وجهٌ مقابلٌ لعملةٍ واحدة، الآخر جارٌ لم تلتقِ به، الآخر هو أنت وأنا.
يحدّثوننا عن خلافاتنا واختلافاتنا، ثمّ يدعوننا إلى “التعايش” لبناء وطننا. التعايش؟ ألا يعني التحايُلَ على ما نُؤمن به وعلى ما يسكُنُ خبايا قلوبنا لمحاولة العيش مع “الآخر” بودٍّ وسلام؟ ألا يعني تحمّل ما لا نحبّ وما نرجو أن يزولَ عنّا كزوال البلاء؟ إذًا فالتعايش ليس هو الحلّ. وكيف الوصول إلى حلّ، والمشترك الوحيد بيننا هو الخوف من معرفة الآخر؟ نحن نخافُ كلَّ مجهول، فهو لربّما ينوي أذيَّتنا، ويكبر هذا الخوف لينتهيَ بنا في قوقعتنا أو في كذبةٍ ألبَسْناها لباسَ الأدب وأسْمَيْناها التعايش. إنّ الحلَّ الوحيد لهذا الخوف هو اللقاء. ويكون ذلك بالخروج من منطقة راحتنا والمبادرة إلى “العيش” مع الآخر.
في وطن التنوّع الطائفيّ مازال هناك من يعيش هذا التنوّع، حيث تجدُ فيه واحات محبّةٍ كجمعيّة أديان والفوكولاري وغيرها من الجمعيّات التي تهدف إلى بلوغ الأخوّة الشاملة مهما كانت الإختلافات الدينيّة والسياسيّة والإجتماعيّة، فما يَجمَعُنا أكبرُ من ذلك: تَجْمَعُنا الإنسانيّة. لعلَّ أجمل ما في هذه الجمعيّات أنّ خلفيَّتَكَ الطائفيّة والمناطقيّة ليست موضعَ نقاشٍ ولا يُسألُ عنها. ففي هذه الواحات أنتَ لستَ “الآخر”، أنت أخي وأمّي وأبي، بل أنتَ أنا، أنا في جسدٍ آخَر، من طائفةٍ مختلفة، أو منطقةٍ مختلفة، أو حزبٍ مختلف. أنا الفقيرُ أو الغنيّ، وأنا الذي رفع نفسه عن تلك العناوين والإعتبارات، واتَّخذَ من كلمة مواطن هويّةً له. فلتَكْبُرْ هذه الواحات لتمتدَّ إلى صحرائنا، فتَبلُغَ مساحة الوطن.
أنا لا أخافك. سأنتظركَ في كلّ لقاءٍ يجري بينك وبيني. ستراني اليوم في كلّ العيون الغريبة، وسأجدُكَ عند كلّ سؤالٍ عن الهويّة. “من أين أنت؟ من أيّ دين؟ من أيّ عشيرة؟”. لن أجيبَكَ ولن أخافَك. سَأسْأَلُكَ عمّا تُحبّ من الألوان، عمّا تحمل من الأحلام، عن أيّ شيء… لكنّني أعدُكَ أنْ أعيشَ معك. لقد آنَ أن ننزعَ غشاءَ الخوف ونرى الحقيقة. الآخر، الوحشُ الضبابيّ، ليس أنا أو أنت، بل هو الذي اتّخذ الطائفةَ سلاحًا ليفرّقَ بيننا. وقد ساعدهُ الكثيرون على ذلك للحفاظ على معتقداتٍ طائفية. فما فائدةُ الحفاظ على الطائفة إذا ما ضاع الوطن؟ وما جدوى دينكَ إذا جَعَلَكَ أسيرّ الخوفِ والحقد؟ كُنْ مُؤمِنًا. كُنْ مؤمنًا حقًّا بالمحبّة التي أرسلها الأنبياء، وكُنْ بعد ذلك جريئًا في تحطيم أصنامِ خوفك. لا تَكُنْ إبنًا للطائفة، كُنْ إبنا للبنان.

فاطمه مكه

Spread the love