إنّه لكلّ العصور
حكّامٌ وذوو سلطةٍ ونفوذ، وأصحابُ أموالٍ وغنى، مرّوا في هذا العالم مخلّفين وراءهم حروبًا وفشلاً وتضخّما هائلا ونقصًا في الموارد الطبيعيّة وأزمةً مناخيّة. قابلهم أناسًا عاديّين عرفوا كيف يبقوا منارةً في عتمة ليالينا. إنّهم القدّيسون!
ومن لا يعرف القدّيس شربل؟ لم يكن شربلُ معروفًا في البداية، إنّما خرج للعالم بعد موته، حين انبثق النور من قبره، “إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ”. القدّيس شربل أضحى معروفًا بعد مماته وأتى بالثمر الوفير.
هذا القدّيس الذي عاش في صومعته حبيسَ عنّايا في لبنان، ومن هناك، من صومعته، وصلت أصداءَ شهرته للعالم أجمع. إنّه أكثر قدّيسٍ صانع عجائب، ما يفوق ثلاثين ألف أعجوبة. يا لعظمة هذا الأمر، كلّ ذلك بالصلاة والصوم والإيمان والإلتزام بمحبة الله والعمل على عيش إرادته. “شربل سكران بألله”، إنّه المؤمن الذي يملأ الله حياته.
شربل مخلوف “إبن العائلة”! ولد يوسف أنطون مخلوف في ۸ أيّار سنة ١٨٢٨ في بقاعكفرا (لبنان الشمالي) من والدَين مارونيَّين هما أنطون زعرور مخلوف وبريجيتا الشدياق. له شقيقان وشقيقتان. تربّى شربل في كنف عائلةٍ مسيحيّة، تعيش الزهد والتجرّد، ونشأ في جوٍّ من الصلاة والخشوع. كان يفلح الأرض ويرعى البقر ويلجأ لصخرةٍ على شكل مغارة، حيث كان يختلي بنفسه للصلاة والتأمّل. معجزاتٌ كثيرة قام بها، مع أنّ حياته بسيطة، واختاره الله من أجلنا نحن. كم نحتاج هذه المعجزات للتشبّه به، أي العيش بالتخلّي والوداعة والطهارة والزهد كما عاش القدّيس شربل. من يحصل على معجزة، ومن يزور القدّيس، يلاحظ تغييرًا جذريًّا في حياته: يعيش ارتدادًا وتوبةً واقتداءً بحياة القدّيس، ويكتسبُ القدرة على التسامح والسلام الداخليّ والشغف للصلاة والتأمّل وفهم الإنجيل. مار شربل اختاره الله من أجلنا نحن حتّى نسير خلفه على طريق القداسة.
“القدّيس شربل الراهب”. صعبٌ هو قرار الإبتعاد عن الدير الذي يقضي فيه الراهب سنواتٍ عديدة، ليختارَ بعدها العيش في صومعة، تمامًا كما فعل شربل الذي قضى العمر ناسكًا متزهّدًا. حين يختار الرهبان حياة النسك يعيشون في مكان منفصلٍ وعالٍ للسموّ بالروح، لأنّه وكما يقول المزمور: “رفعت عينيّ إلى الجبال من حيث يأتي عوني”، فالإرتفاع هو السعي للتقرّب من الله الذي هو في السماء والأرض موطىءٌ لقدميه.
“القدّيس شربل الحبيس”، فبِرِفقَةِ شربل دخلنا المحبسة نتأمّل بهذا القدّيس الذي عرف كيف يَصبُر وكيف يُطيع. كان شربل قد شعر بدعوة التنسّك، فطلب من رئيس الدير الإستحباس في محبسة دير عنّايا. وبدوره، طلب رئيس الديرمن الله علامةً توضح له إرادته، فكانت معجزة السراج. كان قد وُضعَ في سراج مار شربل ماءً بدلاً من الزيت، ورغم ذلك أضاء السراج لشربل ساعاتِ صلاتِهِ الليليّة. وما كان إلاّ أن أُذِنَ له عام ۱۸٧٥ أن يتنسّك، فقضى في صومعته ٢٣ سنة. من المنطقيّ أن تكون نار دعوة التنسّك قد أَلهبَتْ قلبَ شربل شوقًا، لكنّه صبر وأطاع. كلّ ذلك يشيرُ إلى تمرُّسه بفضيلتَيْ الصبر والطاعة. فالصبر، هو قوّة الإنسان، وهذا ما يعلّمنا إيّاه شربل، أن نعرف كيف نصبر. يقول لنا الربّ من خلال الإنجيل أحبّوا، لا تخافوا… ومن المحتّم إنْ صبرنا فسيأتي صبرُنا بنتيجة.
تلك المحبسة التي أخذ فيها مار شربل قراره بالبقاء مع يسوع المسيح سنده وقوّته. هذا ما يدعونا إليه شربل، شربل الذي أطلق العنان في المحبسة للحياة التقشفيّة وزاد شغفه بالتأمّل والصلاة والإستغراق بالله، يجالسه ساعاتٍ وساعات. شربلُ الحبيس كان جليسَ الربّ، يفلح مع الربّ، يعمل مع الربّ، يصلّي مع الربّ، يأكل مع الربّ، وينام مع الربّ، أَوَليسَ الربّ من قال لنا: “ها أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدهر”، فلماذا نهتمّ بأمورٍ كثيرة والمطلوب واحد؟”.
أن نكون شهود إيماننا فنحياه مُوَظِّفينَ عقلَنا وقلبَنا وأيدينا… لنصبحَ “بناة عالم جديد”، قادرين على الحوار والتعاون، دون خوفٍ ودون ادّعاءات، وسط عالم تهدّده الكراهية والتشرذم والأنانيّة والفرديّة، فنكون قدّيسي عصرنا. هذا ممكنٌ لأنّ مَنْ معنا قال لنا: “قد كلّمتكم بهذا ليكون لكم فِيَّ سلامٌ. في العالم سيكون لكم ضيقٌ، ولكن ثِقوا: أنا قد غَلَبتُ العالم” (يو ۱٦، ٣٣).
إعداد ريما السيقلي
Spread the love