كيارا لوبيك (١۹٢٠ – ٢٠٠٨) هي مؤسِّسة حركة الفوكولاري، وأوّل رئيسةٍ لها، وكاتبةٌ غزيرة الإنتاج. نتوقّف في هذا الجزء الأوّل مع بعض المحطّات المهمّة من حياتها للفترة الممتدّة ما بين سنة ١۹٢٠ حتّى سنة ١۹٣٧.
نتوقّف مع بعض المحطات المهمّة من حياتها للفترة الممتدّة ما بين سنة ١۹٢٠-۱۹٣٧
إلهٌ قريبٌ منّا
ولادة أول فوكولاره
“ولكن، عمّا سنتحدث؟”
«عن الحبّ»، تجيب الشابّة.
«وما هو الحبّ؟» يستأنف الكاهن.
«يسوع المصلوب».
بطلة هذا الحوار هي فتاةٌ في أوائل العشرينات من عمرها، اختارت أن تُطلقَ على نفسها إسمَ “كيارا” نسبةً إلى صديقتها الروحيّة العظيمة التي عاشت في أسّيزي من قرونٍ مضت.
كانت اللقاءات تدور بشكلٍ دوريٍّ في تلك الصالة التي دُشّنت على إسم الكاردينال مسّايا وقد دُعيَت كيارا للتحدّث فيهاز كانت كيارا قبل الدخول لتلك القاعة، تتوقّف أمام يسوع في القربان المقدّس لتقولَ له وتردّد: “أنتَ كلُّ شيء، وأنا لا شيء”.
كانت تشارك الفتيات بشكلٍ خاصّ بهذه الإجتماعات، وكنّ ينبهرْنَ بحديث كيارا، تلك الشابّة العلمانيّة التي تتحدّث عن الله من دون كلمات عبادةٍ أو تقوى! كانت تتحدّث عن إلهٍ قريب، إلهٍ في متناول اليد، من دون أن ينقصَ من سموِّهِ شيءٌ. هكذا بدأ ما ستُعرّف عنه كيارا بأنّه “تأرجُح القلوب”، قلوبّ سوف ينطبع فيها الكثير من الحديث عن الله الذي سوف يقودهنّ إلى اتّباعه، إلى حدِّ المجازفة بحياتهنَّ من أجله. سوف تتشكّل حول كيارا بالتالي مجموعةٌ من الفتيات يرغبن في مشاركة هذه التجربة التي تحمل في طيّاتها هذا العنوان: “كلّ شيء، ولا شيء غير الإنجيل”.
في هذه الأثناء، تجرُّ الحرب تْرَنتو إلى هاوية الدمار والموت. سيضطرُّ مئات الأشخاص إلى مغادرة منازلهم المتضرِّرة من جرّاء القصف. وكانت كيارا واحدةً من بينهم.
دلّها أحدُهم على شقّةٍ صغيرة، تقع في أطراف المدينة، بالقرب من الكنيسة الكبّوشِيّة. هناك في “البيت الصغير”، أقامت كيارا مع عددٍ قليلٍ جدًّا من رفيقاتها. وسرعان ما تحوّلت هذه الحياة إلى تجربةٍ تأسيسيّةٍ لنمط حياةٍ كانت قد تصوَّرتها كيارا في وقتٍ سابقٍ في لوريتو. هي حياةٌ مع “يسوع في الوسط، ٢٤ ساعة على ٢٤”. هكذا وُلد الفوكولاره، الذى يهدف إلى تكرار، وعلى قدر الإمكان، حياة “بيت الناصرة”، ذلك الواقع البشريّ والإلهيّ في آن.
أُولى الكلمات الأساسيّة التي علَّمها اللهُ لكيارا ورفيقاتِها كانت “المحبّة المتبادلة”، والتي “تحقّقُ، بنعمةٍ من الله، حضورَ يسوع فى الوسط؛ ثمّ كلمات مثل “عيش الوحدة”، باعتبارها رغبةُ الله الأسمى لنا؛ فعندما صُلب يسوع صرخَ صوب الله الآب صرخة التخلّي، وكانت تلك الصرخة ذروة الألم وخلاصته، وبالتالي “الطريق الإلزاميّ” للمحبّة التي تخلقُ الوحدة.
لم يُخطِّطنَّ أن يقمنَ معًا من أجل رعاية الفقراء ولكن، بسبب تلك الرعاية، ما لبثت أن وُلدت من حولهنّ الجماعة المسيحيّة. سرعان ما انضمَّ إلى المجموعة الأولى عددٌ من الشباب، وقد فَتَنَهُم نفس المثال، ثم تشكّل حولهنّ عددٌ صغيرٌ من سكّان البلدة.
“وبعد بضعة أشهر، أصبح عددُنا خمسمائة شخص”، تقول كيارا. إنّهم علمانيّون، ومتزوّجون، ورهبان، ومكرّسون… شعبٌ يسترشد بكلمات يسوع، كلماتٍ تتلخّصُ في “أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم”؛ “ليس لأحدٍ حبٌّ أعظم من أن يبذُلَ الانسانُ نفسه في سبيل أحبّائِه”؛ و”إلهي إلهي لماذا تركتني؟”.
في أكتوبر ١٩٤٥، يوم عيد المسيح الملك، صَلّيْنَ المزمور الذي يقول: «إسألْ فأعطيكَ جميعَ الأمم ميراثًا». وهذا ما طلبته كيارا ورفيقاتها الأوائل.
الرحلة إلى روما ولقاء مع إِيدْجينو دْجورْداني
في الأوّل من أيّار/ مايو عام ١٩٤٧، وافق رئيس أساقفة ترنتو، كارلو دي فيرّاري، على لائحةِ شرائعَ صغيرة، جعلت من وجود “بيوت فوكولاري الوحدة” وجودًا رسميًّا.
لم تعد ترنتو كافية.
ما أن انتهت الحرب، حتّى وجدت كيارا نفسها في روما. شاءت العناية الإلهيّة، بسبب سوء الفهم الذي نشأ في ترنتو حول نمط الحياة الجديد أي هذه “الطريق الجديد” غير المألوفة، أن تقود كيارا ورالفوكولاريني الشباب والبنات، للقاء أشخاصٍ جُدُدٍ ونقلِ خبرتِهِم إليهم.
البيئة مختلفةٌ تمامًا: قاعات الأبرشيّة، غرف استقبال كبار الشخصيات…
في ۱٧ سبتمبر ۱۹٤٨، أجرت كيارا برفقة بعض أعضاء الحركة الناشئة، محادثةً خاصّةً مع إيدجينو دجورداني، في مُونْتِشيتورْيو، مقرّ مجلس النواب الإيطاليّ، وهو عضوٌ في البرلمان، ومعروفٌ في العالم الكاثوليكيّ والثقافيّ، كاتبٌ مُضطَهَدٌ من قِبَل النظام الفاشيّ، ناضجٌ في السنّ والثقافة والخبرة السياسيّة. راحت كيارا، ببساطتها المعتادة ووضوحِها الإنجيليّ، تخبره عن تجربتها. أدرك دجورداني أنّ الله كان قد أعدَّهُ لهذا اللقاء منذ سنوات: لقد وجد إجابةً لحاجته إلى الحياة المسيحيّة الحقّة.
في ذلك المساء دوَّنَ في مذكّراته: “هذا الصباح في مُونْتِشيتورْيو نادتني الملائكة، […] فتاةٌ صغيرةٌ تحدّثت وكأنّها روحٌ مُلْهَمَةٌ بالروح القدس”.
كتب إِيدْجينو دْجورْداني في آذار/ أبريل ۱۹٤۹
“الأخت كيارا ورفيقاتها،
تمتلك هذه الفتيات أمومةً روحيّةً عالية، بالرغم من أنّهنّ شابّاتٌ صغيرات، وبسيطات، لكنّهُنّ يَتحَلّيْنَ بالنضج، والإستقامة، وبشخصيٍّة لا يمكنك أن تتغاضى عنها. وهنَّ مبتسماتٍ يُحوِّلْنَكَ فتَرْتَدّ، يُصحِّحْنَ لكَ. ترى معهُنَّ كيف تنكشفُ حقائقَ الإنجيل للصغار، وكيف تُزرَعُ الحكمةُ الأبديّة في قلوبٍ مطيعةٍ ومتواضعة، فنفهمُ لماذا كانت أسمى بني البشر هي الخادمةُ الأكثر تواضعًا.
المنزل بسيطٌ مثل أرواحهنّ. هو شبهُ خالٍ لكنّه بهيجٌ ومملوءٌ نعمة. حتّى المطبخ يتبسَّم لإحتفالهنَّ الدائم.
عندما يَذكُرْنَ يسوع، يُضِفنَ عذوبة، نعمةً يتجلّى فيها الحنانُ الداخليّ والذي فيه كلُّ التركيز على حبٍّ هائل. […]متمايزاتٌ في ما بينهنّ، ولكن وفي الوقت عينه، متشابهات، يُوَحدّهنَّ شعورٌ واحد، أو، كما يَقلْنَ، هنّ متّحداتٌ بيسوع وحده. وفي كلٍّ منهُنَّ فرحٌ، وصراحةٌ، واستسلام. وحتّى التي كانت تائهة، وهي في ما بينهنّ، إستعادت البراءةَ الأوّليّةَ.
في طاعتهنّ، وفي الإستعداد للخدمة والتضحية بأنفسهنّ، هناك صلابةٌ في الإرادة، مع وعيٍ أكيدٍ للهدف الذي يَتُقْنَ إليه، وهو الوصول إلى يسوع، من خلال إحياء النار في النفوس. ولن يوقفهُنَّ أحدٌ.
بتركيزهنّ على محبّة يسوع المتروك، يصبحُ الألمُ المادّةَ الخام، والوقودَ للحُبّ. ومعه، كما في عمليّة التصوير الفوتوغرافيّ، تنقلبُ الأمور، فتصبحُ السلبيّاتُ إيجابيّات، والآلامُ تتحوّلُ فرحًا. كلُّ شيءٍ يتحوّل إلى محبّة، حيث لا يعود المرءُ يتألّم لأنّه يُتمِّمُ إرادةَ الله، “في إرادته يكون سلامنا”.
المدينة الجديدة