إعادة اكتشاف المسيح في القرآن الكريم
عن محاضرة للدكتور عامر الحافي حول موضوع “إعادة اكتشاف المسيح يسوع في القرآن”، كنيسة القديس كيرلس – القاهرة، يونيو ٢٠٢٥
الدكتور عامر الحافي أستاذ مقارنة الأديان في جامعة آل البيت – الأردن
المستشار الأكاديمي للمعهد الملكي للدراسات الدينيّة في الأردن

إنّ المؤمِنَ ليس انسانا مُنْفَعِلا، بل هو إنسانٌ فاعِل. المؤمنُ أصيلٌ في موقفه، وفي فِعْلِه، ولا يتعامل بمنطق ردود الأفعال: “تحبّني أحبُّك، تكرُهني أكرهُك”، بل هو أسمى من ذلك. أليس هذا ما قاله السيّد المسيح: “وَإِنْ أَحْبَبْتُمُ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ فَضْلٍ لَكُمْ؟” (إنجيل لوقا٦: ٣٢).
لماذا إذًا نخاف الآخرين عوضا عن أن نُحبَّهم؟
طرحتُ هذا السؤال على نفسي، كمسلم. وهنا أودُّ أن أقول شيئًا هامًّا لكلِّ مسلمٍ، وكلِّ مسيحيٍّ، وكلِّ إنسان. أودُّ أن أتحدّث إليكم “بنَفَس الروح” التي فينا، وليس بهويّةٍ أخرى. أخاطب الأرواح، فهي دائمًا كبيرةٌ وعطشى، لا تسعُها جغرافيا الجسد، فنحن نشعر كم أنّ أجسادَنا تضيقُ بأرواحنا!
لقد أصبح المسلم سُنّيًا وشيعيًّا، ثم أصبحَ السنّيُ سلفيًّا أو صوفيًّا أو أشعريًّا أو حنبليًّا أو حنفيًّا، وكلّما ازداد الانقسام، ازدادت العصبيّة، وضاقت رؤيتُنا للآخر. أمّا حين نتكلّم باسم الإنسان، كم تصبح العبارات رحبةً وجميلة!

من أكثر العبارات التي لمستني في الإنجيل هي عبارة “ابن الإنسان”. بعيدًا عن العقائد واللاهوت، حتّى في الإسلام لدينا مدارسُ فكريّة عقائديّة، ولكنْ لطالما قيَّدت العقيدةُ الإيمان، وَوَضَعتْهُ في قوالِبَ جاهزة. قال أحدُهم: “وضعوني في إناءٍ، ثمّ قالوا لي: تأقلمْوأ، نا من طينِ السماءِ، فإذا ضاقَ إنائي بنُمُوّي… تَحطَّم”.
نعم، إنّ الإيمانَ أسمى من العقيدة، لا يُمكن وضعه في قاعدةٍ أو إطار، والإيمانُ شعورٌ بالطمأنينة، لا يمكنُ التعبير عنه بالكلمات.

أؤمنُ أنّ اللهَ فوق كلّ التصرّفات، والحياة ستبقى مُعضلة، وسنظلُّ أطفالًا نلهو بجوار البحر، كما قال القدّيس أغسطينوس عندما عَجِزَ عن فَهْمِ بعض القضايا العقائديّة:
“فبينما كان يتمشّى على شاطئ البحر، رأى طفلًا صغيرًا يحفرُ حفرةً في الرمل ويحاول أن ينقُلَ ماءَ البحر إليها مستخدمًا صدفة. فسأله أوغسطينوس: “ماذا تفعل؟”، أجاب الطفل: “أريدُ أن أضعَ البحرَ كلّه في هذه الحفرة”، فابتسم أوغسطينوس وقال له: ” هذا مستحيل!”. فردَّ عليه الطفل، الذي يُعتقد أنّه كان ملاكًا وقال: “وكذلك يا أوغسطينوس، كيف تظنُّ أنّكَ قادرٌ أن تضعَ اللهَ في عقلك الصغير؟”. وكما يقول أحدُ المتصوّفة “الأحدُ لا يعرفه أحدٌ” ولا أحد يستطيع أن يعرفَ اللهَ كما يعرف اللهُ نفسُه. نحن نعرف شيئًا عن الله، وشيئًا عن المسيح، وعن محمّد، وعن موسى، لكنّنا محدودون للغاية. وعلى سبيل المثال، فإنّ أعظم علماء المَصريّات لا يستطيع أن يقول إنّه يعرف ١٠% من حضارة مصر التي عمرها أكثر من ٧٠٠٠ سنة، فكيف ندّعي الإحاطة بالله خالق الحضارات والأكوان كلّها؟ أين أنتَ أيّها اللاهوتيُّ الكبير؟ وأين أنتَ أيُّها الدرويشُ الفاني؟ كُنْ فيلسوفًا ترى الدنيا ألعوبة، ولا تكن طفلًا هلوعا. تواضع! فَلَسْتَ أنتَ الحقيقة، ولا أنا. نحن جميعًا مساكينُ نسيرُ في درب الحياة، ويجب أن نتعلّم كلَّ يومٍ ما كنّا نجهلُهُ بالأمس.

عندما نسألُ الأمّ: “ماذا يعني لكِ ابنُكِ؟”، قد تعجزُ عن الإجابة رغم عظيم محبّتِها لولدها. فهناك أشياءُ كثيرةٌ تبدو الكلماتُ فيها تافهةً أو عاجزة، ولا تعبّر عن حقيقة ما يشعر به الإنسان. ولذلك قال المسيح: “أُكلّمُهم بأمثال”، لأنّ الناسَ لا تتحمّل ولا تُدرك معاني الكلام المباشر!
ألكلامُ الخارج من القلب يصلُ إلى القلب، أمّا الكلامُ المسموع فقط بالأذنَيْن، فهو يمرُّ عبر فَلاتِرَ جاهزة. كثيرٌ منّا يسمعُ الآخر من خلال تصوّراته الجاهزة والمسبقة، وبالتالي نحن لا نسمعُ بعضنا بعضًا، بل نتنافس في مَن يملكُ فلاتِرَ أقوى. لا يوجد قبولٌ حقيقيٌّ للتعدُّدِ والاختلاف لدى كثيرٍ من الناس، رغم أنّ اللهَ خلقنا شعوبًا وقبائل .
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا” (سورة الحجرات الآية ١٣).
أراد اللهُ لنا أن نكون مُختَلِفين، فرفضنا ذلك، وأصبحنا مُتَخلِّفين. إنّ المُتخلِّف هو مَن لا يقبلُ الاختلاف، لأنّ التنوّعَ يدعونا لاكتشاف الجديد، لا لتكرار ما نَعرِفُه.
يجب أن نتحلّى بالشجاعة لننفتِحَ على بعضِنا البعض، لا لِنَنْظرَ إلى الآخَرَ بأسوأ ما فيه، بل لِنُحِبَّ ونفتحَ قلوبَنا لمن يفتحُ قلبَهُ لنا.
يمكننا أن نكونَ عالميّين كما جاء في أغنية فيروز للأخوين رحباني:
“انا أينما صلّى الأنامُ، رأت عيني السماء
تفتّحت جودًا كم راكعٌٍ ويداهُ آنستاه أن لا يظلّ الباب موصودا”…
عجيبٌ أيّها الإنسان كيف ترى اللهَ في كلِّ صخرةٍ صمّاء، ولا تراه في عيون مؤمنٍ يُحدّقُ إلى السماء؟

إنّ أوّلَ كلمةٍ نطق بها المسيح في القرآن كانت: “لا تحزني”.
ألمسيحُ عليه السلام يقول لأمّه مريم مُواسيًا لها:
“فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا” (سورة مريم، الآية٢٤).
فهلاّ تأمّلنا بهذه المعاني العظيمة؟ هل كان المقصود بمعنى “سريّا” هو نهرًا حقيقيًّا من المياه العذبة؟ أم كان المسيحُ هو نفسُهُ ذلك النهر، وهو ماءُ الحياة؟
ألكتبُ المقدّسة مدهشةٌ ومحيِّرة. وكما يقول أحد العلماء: “لو أوتِيَ العبدَ بكلِّ حرفٍ أَلْفَ فَهْمٍ، لَما وَسعَهُ أن يُدركَ آيةً واحدةً من كتاب الله”.
“وبارًّا بوالدتي” (سورة مريم، الآية ٣٢): هذه صفةٌ أخرى للمسيح في القرآن. فالمسيح في القرآن هو البارّ.
“أَنْعَمْنا عليهِ” (سورة الزخرف، الآية ٥٩): المُنْعَم عليه، صاحب النعمة. لم نكُنْ نُدرك أنّ المسلمين يتكلّمون عن المسيح بهذه الطريقة، إنّه صاحبُ النعمة. “أنْعَمْنا عليه”، “وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ” (سورة الأنبياء الآية ٩١).
والمسيحُ يسوع هو آيةٌ من آيات الله، وليس نبيًّا خاصًّا بِبَني إسرائيل. فهو آيةٌ عالميّة. كثيرٌ من المسلمين يظنون إنّ الأنبياءَ جاؤوا لقَوْمِهم، إلاّ النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم. فالمسيحُ قد جاء للعالم آيةً للعالمين وليس فقط لبني إسرائيل.
“فَنَفخْنَا فيهَا مِنْ رُوحِنَا” (سورة الأنبياء، الآية ٩١): مريمُ نُفِخَ فيها من روحِ الله، وكلمتُهُ ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه.
ما معنى كلمة الله؟ حتّى المسيحيّين يمكن أن يختلفوا في ما بينهم حول فهمهم لمعنى “كلمة الله”. وكذلك اختلف المعتزلة والأشاعرة والحنابلة في معني كلام الله، وتجادل المسلمون لقرونٍ حول معنى كلام الله، وها نحن لا نجدُ حلاًّ حتّى الآن. ذلك لأنّنا حوّلنا القضايا الدينيّة الروحيّة إلى قضايا جَدَليّة خِلافيّة. هل يجب علينا أن نجادِلَ بعضنا ونفحم بعضنا البعض، فيصبح بعضنا مُتَفَحمين! هل الدّينُ يدعونا إلى التفحيم والإفحام؟ هذا هو الهَوَس بعينه!
وجاء عن المسيح عليه السلام في القرآن أنه “وجيهًا في الدنيا والآخرة”: مَن هو الوجيه؟ وجيهٌ نسبةً إلى الوجه، والوجه هو أعلى وأشرف ما في الإنسان، عندما نقول عن أحدٍ إنّه من وجهاء الشعب، فهذا يعني إنّه من النخبة. ألمسيحُ وجيهًا في الدنيا والآخرة: ما هذه الأوصاف الراقية ؟ حتّى الأنبياء الآخرين لم يحظوا بهذه الأوصاف. تسألني لماذا؟ لا أدري. هناك شيءٌ خاصٌّ بالمسيح. هناك شيءٌ غيرُ مفهومٍ في هذه الشخصيّة، شيءٌ مميّز.

نسب القرآن الى المسيح أوصافًا عجيبةً ومعجزاتٍ لا نجدُ نظيرًا لها للنبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
لقد كلّم المسيحُ الناسَ وهو في المهد، وأحيا الموتى، وأَنْبَأَ الناسَ بما في بيوتهم، وشفى الأمراض. ولم ينسب القرآن الكريم للنبيّ محمّد معجزةً واحدةً ماديّة. أعطاه معجزةً روحيّةً واحدةـ معجزة الإسراء. لذا لو كان النبيُّ محمّد هو مَن كتبَ القرآن، لكان وضعَ لنفسِهِ بعضَ المُعجزات! ولكنّ القرآن ذاته كان هو المعجزةُ الكبرى للنبيّ.
عندما نتعمّق بدراسة الفكر الدينيّ، سنعاود اكتشافَ المسيحِ كما نكتشف العالم وأنفُسَنا كذلك.
إذا قرأنا الإنجيل بعمق، وقرأنا القرآن بعمق، سنكتشف أنّ كلام الله يُصدّق بعضُهُ بعضًا، وأنّ المؤمنين يجب عليهم أن يصدّقوا بعضُهُم بعضًا.
إنّ الصفاتَ التي أعطاها القرآن للمسيح، يجب أن تزيدَ من محبّتنا له، ولمَن يُحبّه. فمَنْ يُحِبُّ ابنَكَ، لا يمكن أن لا تُحبُّهُ؟ فكلُّ مَن يُحِبّ محبوبَكَ، يصبحُ محبوبًا لديك!
وإذا كنّا نحِبّ المسيح، ونُحِبّ من يُحِبّ المسيح فسنحبُّ بعضُنا بعضًا مسلمين ومسيحيّين.

إعداد ريما السيقلي

Spread the love