إرتدادي إلى الإنجيل
لا يمكن إلّا أن أتكلّمَ عن إنسانةٍ مميّزة، توفّيتْ مؤخّرًا في ه كانون الثاني (يناير) ٢٠٢٢ إسمها بالميرا وهي من رفيقات كيارا لوبيك الأوائل. تعرّفَتْ على كيارا وعلى روحانيّتها فانْقلبَتْ حياتُها رأسًا على عقب. لكنْ لِندَعْها تخبرنا هي بنفسها كيف حدث هذا الإنقلاب الذي أسمتْه “إرتدادي إلى الإنجيل”.
تقول بالميرا: “أتكلّم عن ارتدادٍ لا بمعنى العودة إلى الإنجيل، لكن عن تغيّرٍ كلّيّ في الذهنيّة. كان إيماني حيًّا منذ صغري وأردتُ أن أصبحَ راهبةً ومُرسلةً في بلاد الهند، لكنّي مرضتُ واضُطررتُ للعودة إلى البيت. هكذا سقط مشروع حياتي. صرتُ حزينة، محبطة، وحيدةً لا أعرف كيف أبني علاقةً مع أحد، بل أخاف أن أفعل، إلى أنْ تعرّفتُ على شابّةٍ لطيفة، عاملْتُها مثل أيِّ شابّةٍ أخرى، لكنّني شعرتُ بأنّها قريبةٌ منّي ومُحِبّةٌ بلا تَصَنُّع. فتحتُ لها قلبي وأخبرتُها عن ألَمي العميق وبخاصّةٍ أنّه لم يعُدْ ممكنًا أن أخدمَ الله في الرهبنة ولا مستقبل أمامي. أجابتْني حينها: “بالميرا، إنّ مثال الإنسان المسيحيّ ليس بدخول الدير ولا حتّى بالذهاب كمُرسلةٍ إلى الهند. مثال المسيحيّ هو الله، الله الذي هو محبّة. مثالنا هو أن نحبَّ الله مُتممّين إرادته، وإرادته هي أن نحبَّ بعضنا بعضًا، أن نحبَّ القريب، بدءًا من الأقرب إلينا، مثل والدتك وأخيك… “. قلتُ: “مستحيل، لا! لا! أنا أخاف أن أُحِبّ”. فسألَتْني: “هل تخافين من يسوع؟”، أجبت على الفور: “لا، من يسوع لا أخاف!”. فقالت: “إسمعي، يسوع موجودٌ في كلّ قريب”. ثم قرأَتْ لي إنجيلَ القدّيس متّى حيث يقول الربّ: “لأنّي جعتُ فأطْعمْتموني وعطشتُ فسَقيْتموني وكنتُ غريبًا فآويتموني…” و “كلّ ما فعلتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد فعلتموه”. وهنا انتهى الحوار. هذا كلّ شيء! لكنّه كان كافيًا لِيُغَيّرَني، ليُحرّرَني. غيّرَني قلبًا وقالبًا حتّى في طريقة اختيار ملابسي، لدرجةٍ أنّ البعضَ ظنَّ أنّني مخطوبة!
بعد بضعة أشهر تعرّفتُ على كيارا لوبيك التي لم أكن أعرف حتّى بوجودها. تأثّرتُ جدًّا بها لأنّها كانت تتكلّم عن الله في كلّ مكانٍ وكلّ ظرف. لاحقًا، إنضممْت إلى كيارا ورفيقاتها الأوائل في بيتهنّ الصغير الذي يسمّونه “فوكولاره”، وشاهدتُ كيف كنَّ يعشْنَ الإنجيل بحرفِيَّته. دقّ البابَ يومًا رجلٌ يطلبُ طعامًا. لم يكنْ لدينا سوى بيضةٍ واحدة. كنتُ أنا مسؤولةً عن تحضير الطعام ذلك اليوم. فقلتُ له: “ليس لدينا شيئًا أُعطيكَ إيّاه”. سمعتْني “دجوزي”، فتدخّلتْ قائلة: “أيبدو لكِ أنّ تلك البيضة في المطبخ ليست بشيء؟”، أجبتُها: “لكن هذا كلّ ما لدينا!”، فأكْمَلَتْ تشرح لي وتقول: “بالميرا هذا الشخص على الباب هو يسوع. هل تقولين ليسوع إنّه ليس لديكِ شيئًا تُعطيه إيّاه؟ ثمّ ألَمْ يَقُلْ أعطوا يُعطى لكم؟ أتؤمنين بكلامه؟”، عندها أعطيتُ الرجُلَ البيضة. في اليوم ذاته أتتْ امرأةٌ وقدّمَتْ لي كيسًا فيه ثلاث عشرة بيضة! عشتُ مئاتِ الإختبارات المماثلة وأيقنْتُ أنّه عندما نعيش كلام يسوع حرفيًّا، يُجيبنا هو أيضًا حرفيًّا، بحسب إيماننا.
بعد سنتين من هذه الحياة في بيت الفوكولاره، أُصِبْتُ بمرضٍ في عينَيّ. فقدْتُ النظر في عيني اليمنى وقال الطبيب إنّ العينَ اليسرى ستصابُ بدورها! ماذا؟ الآن وقد وجدْتُ فرح الحياة ومثال حياتي؟ خرجتُ من عند الطبيب مع “نتاليا” التي كانت هي أيضًا تسكن معنا، وصرتُ أبكي وأبكي. لم تتفوّه “نتاليا” بكلمةٍ واحدة. كانت تتألّم معي بصمت. في نصف الطريق توقّفْتُ وقلتُ لها: “لماذا أبكي هكذا؟ كي أرى يسوع في القريب لستُ بحاجةٍ لعينَيّ، لديّ أَعْيُن قلبي! إسمعي، سأقيمُ عهدًا مع يسوع وأنتِ شاهدةٌ عليه: إذا كان يريد أن أمجّدَهُ بعينَيّ فليَترُكْ لي نظري. وإذا كان يريدُ أن أمجّدَهُ دون عينَيّ فليأخذ نظري”. إستشرْنا طبيبًا أخصّائيًّا مشهورًا بعدها وأكّد لي أنّ عيني اليسرى ليست مصابة ولن تصاب. وهكذا كان.
ما أريد أن أقوله هو أنّنا أحيانًا نخاف أن نعطي ليسوع شيئًا نتعلّق به: عاطفة معيّنة، مشروع عمل، أيّ شيء. لكنّه يستحقّ أنْ نعطيَه كلَّ شيء فهو لا يَدَعُنا نكون أكرم منه، لأنّه محبّة.
إعداد حياة فلاح
Spread the love