غير أنّ الأبحاث نفسَها تعود لتؤكّدَ أنّ الدعمَ أو التشجيعَ المتبادل له تأثيرٌ إيجابيٌّ كبيرٌ على الصحّة، مع زيادةٍ في تقبّل فكرة الشيخوخة وشعورٍ أكبر بالأمان.لدينا ميلٌ لأن نتوقُّع كلَّ شيءٍ من السياسة والدولة، بالرغم من أنّ المبادرات الإجتماعيّة والإلتفاتات لبعضِنا البعض هي التي تُحسّنُ صحّةَ مجتمعاتِنا، مثل رعاية الأشخاص ذوي الإحتياجات الخاصّة، ومساعدة المصابين بأمراضٍ مزمنةٍ وميؤوسٍ من شفائها، والتقرّب من كبار السنّ الذين يزدادون عزلةً في عالمهم الخاصّ. يبدو لي أنّ هذا هو المفتاح لفهم العديد من المواقف التي نوليها أهميّةً أكبر.يصعبُ علينا فهم عالم الشيخوخة. لكنّنا كلّما رافقنا كبيرًا في السنّ تعلّمنا الكثير، وأدركنا كم أنّنا نقع في شراك أنانيّتنا، تلك الأنا الزائفة التي تأبى أن ترضخَ لسُنّة الحياة، ولا تعرف كيف تخسر ما اعتادت على اقْتِنائِه، لأنّها لا تثقُ بأنّها في ذلك، أي كلّما تصرّفت على هذا النحو، سوف تصلُ يومًا إلى اكتشاف ذاتها وإلى الإفصاح عنها بشكلٍ كامل. هذا العجوز عانى، وخاض معركته، وحقّق أهدافًا، وأعطى، ولامس غورَ الحياة وأبعادَها، وتنشَّقها بعُمقِها ولُغزِها وجمالِها. تمرَّسَ كثيرًا حتّى “عرفَ كيف يموت” قبل أن يموت، وفهمَ ماهية الوجود وجوهره الحقيقيّ، فوصل إلى صفاءٍ داخليٍّ تصعبُ علينا قراءتُه.ليست الرعاية المقدَّمة لكبار السنّ كالرعاية التي نوليها للطفل الذي ينمو وينفتح على الحياة ويغرسُ الأمل. رعاية كبار السنّ تجعلُنا نتعامل مع تدَنٍّ في القوّة الجسديّة والقدرات عامّةً. ربطُ حذاء طفلٍ أو تغيير حفاضِه يختلفُ تمامًا عن ربطه لشخصٍ مسنٍّ وتغيير حفاضه. لكنّ الدهشة تمتلكُنا عندما نرى نظرةَ العجوز المفعمةَ بالإمتنان تلمعُ في عَيْنيْه لمجرّد لفتةٍ صغيرةٍ مِنّا، أو دقائقَ نقدّمُ فيها وقتًا وإصغاءً وابتسامة… حنانُ العالم يتدفّق من ذلك الوجه الذي حاكت التجاربُ خطوطًا مزمنةً على ملامحه. يُدهشنا الفرح الذي يولدُ في داخلنا في كلّ مرّةٍ نقوم فيها بهذه الخدمة المتواضعة، فهو مردودُ الهبة المجّانيّة المتعالية فوق كلّ أنانيّة!
هنا أتساءلُ حول تحديّات دمج الروبوتات في أماكن المعيشة البشريّة. لقد تمّ تصميم روبوت وتطويره ممّا يسمح لكبار السنّ بمواصلة العيش في المنزل، فيكون وسيلةً لمكافحة العزلة. يُطلبُ من الروبوت أن يكون قادرًا على تقديم المساعدة في عددٍ معيّنٍ من الأعمال المنزليّة وقادرًا على المراقبة عن بُعد وطمأنةِ مقدّمي الرعاية لكبارِ السنّ ولأقاربهم. كما يُمكن لكبير السنّ استخدامَ الروبوت كوسيلةٍ للتواصل، فتزوره أسرته إفتراضيًّا. ولكن، ومع كلّ هذا الذكاء المُصطنع، لا يمكن اعتبارَ الروبوت شخصًا بشريًّا يأتي ليأخُذَ مكانك. فلا يمكن لأحدٍ أن يملأ غيابك! من المُسلَّم به، أنّه كي يعملَ الذكاء البشريّ بتوازنٍ ويكونَ مفيدًا للمجتمع بأسره، هو بحاجةٍ إلى أخلاقيّاتٍ تُديره.
أمّا خبرةُ كبار السنّ وحكمتهم، فأنت مَن ينهلُ منها… إنْ كانت أذهانُ الشباب تتغذّى بالفضول والإستكشاف، وإنْ كانت الخبرةُ في سنّ النضج تُثقِّفُ العقلَ وتُهذّبُه، فإنّ الحكمةَ عند كبير السنّ هي حصادُ مكافآتٍ لا يمكننا تقديرها إلّا عندما نصل إلى خريف العمر. هذه الحكمة تساعد الشباب على تبديد شكوكِهم والحدِّ من ردود أفعالهم في مواجهة صعوبات الحياة.
وجّه قداسة البابا فرنسيس رسالةً للشباب بمناسبة اليوم العالميّ للشباب الثاني والثلاثين سألهم فيها: “هل تدركون أنّ اللقاءَ بين الشباب والمسنّين هو مصدرُ غنًى إستثنائيّ؟ أيُّ اهتمامٍ تولون للمسنّين، لأجدادِكُم؟ أنتم تتوقون، وهذا حقّ، إلى “الإنطلاق”، وتحملون في قلوبكم الكثيرَ من الأحلام، ولكنّكم بحاجةٍ إلى حكمة المسنّين ونظرتهم. فمِنَ المهمّ، فيما تفتحون جناحَيْكم، أن تكتشفوا جذورَكُم وأن “تستلموا الدفّة” من الأشخاص الذين سبقوكم. وكي يُبنى مستقبلٌ ذو معنى، يجبُ فهمَ الأحداث الماضية واتّخاذ المواقف تجاهها. أنتم الشباب تملكون القوّة، والمسنّون يملكون الذاكرة والحكمة. فعلى مثال مريم مع إليصابات، أميلوا نظرَكُم نحو المسنّين، تجاه أجدادِكُم، وسوف يخبرونكم بأمورٍ تُذهِلُ عقلَكُم وتُحرّكُ قلوبَكُم”.
حين تلتقي بكبار السنّ تذكّر أنّ كلَّ مُسنٍّ يمكنُ أن يكون جدَّك. لنَخلُق صداقاتٍ بين الصغار والكبار فنبنيَ جسورًا تجعلنا نكتشفُ أهميّةَ هذه الخبرة ونُعزّزُها. لنَفهم منهم جوهر الحياة…
عيدُ الميلاد على الأبواب، دعونا نعرف كيف نستقبل هدايا كبار السنّ من حكمةٍ ونصيحةٍ وخبرة.
حين تغربُ الشمسُ على وجه عجوز، يدركُ المرءُ أنّ الشيءَ الوحيد المُتبقّي له ويستحقُّ المثابرة هو كميّةُ الحُبّ التي يعطيها ويتلقّاها.
ريما السيقلي