أين الحرّيّة؟
من الهبات الكثيرة التي خصّ بها الله الإنسانيّة كانت الحرّيّة. “اللهُ حرٌّ، يتعاطى مع إنسانٍ حُرّ”. تُرافق الحرّيّة الإنسان في كلّ مظاهر حياته، في مجتمعه، في عائلته وفي “الأنا” الخاصّة به.
ولكن، يبقى السؤالُ مطروحًا: هل الإنسان حرٌّ فعلاً في مجتمعٍ عليه التقيُّد بتقاليده وعاداته؛ فمنزلُهُ يقعُ في حيٍّ لا يُفضّلُهُ وعملُهُ مفروضٌ عليه… فأين حرّيّته؟ أم هو حرٌّ يا ترى في عائلته؟ ولكن، مَن مِنّا اختارَ ذويه أو إخوته، هل للأب خيارٌ في ألّا يعمل؟ أو للأُمِّ في ألّا تقوم بواجباتها؟… وهل الأولاد أحرارٌ في رفض الدرس وعدم طاعة الوالدَيْن؟ قد تكون الحرّيّة حتمًا في “الأنا”، في الذات الإنسانيّة. ولكن، هنا أيضًا إشكاليّةٌ كبيرة. هل أنا قادرٌ على السيطرة على مُيُولي ورغباتي وأفكاري؟!
فَهِمَ الإنسانُ الحرّيّة بأن يفعلَ ما يريد، ساعةَ يشاء، وأينما يشاء. فهو حرٌّ في أن يرفَعَ صوتَ التلفاز حتّى لو أزعج الجيران ومَنَعَهُم من النوم، حرٌّ في أن يحتفِلَ بأفراحِهِ ونجاحاتِهِ بإطلاق النار حتّى لو عَرَّضَ الناسَ للموت برصاصةٍ طائشة. حُرٌّ في أن يقودَ السيّارةَ بسرعةٍ فائقةٍ مُعَرّضًا حياتَهُ وحياةَ الآخرين للخطر، تاركًا وراءَهُ قلوبًا تحترقُ على فقدان أحبّائها. حُرٌّ بألّا يساعدَ أحدًا، فهو يُفضّلُ أن يستريح. حرٌّ بأن يقفلَ بسيّارتِهِ على سيّاراتٍ كثيرةٍ من دون أن يتركَ رقمَ هاتف…
أجل أعزّائي الحرّيّةُ التي يعيشُها مٌعْظَمُنا اليوم شبيهةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ بحرّيّة الهِرَرَة. فالهرُّ لا يرتَدِعُ عن أكلِ قطعة لحمٍ أعدَّتْها أمٌّ فقيرةٌ لتحضير طعام الغذاء لعائلتها، أو يلتهمُ خبزَ الفقير أو حليب طفلٍ يتيم لأنّ ما يعرفُهُ هذا الهرّ يأتي بالغريزة، يريدُ “إشباع حاجاته وغرائزه”.
وهنا نعودُ إلى الجملة الأولى: “اللهُ حرٌّ، يتعاطى مع إنسانٍ حرّ”. عن أيّةِ حرّيّةٍ يتكلّمُ الله؟ بالطبع ليست الحرّيّة بأن نتصرَّفَ ونعيشَ على ذوقنا من دون رادع. واللهُ يُعطينا الجوابَ بنفسه: “إعرف الحقَّ والحقُّ يُحرّرُكَ”. أدرك الربُّ أنّنا بضُعْفِنا لن ننجحَ بعَيْشِ الحرّيّة فدلَّنا على الطريق: “معرفة الحقّ”.
وهنا أيضًا نجدُ اجتهاداتٍ كثيرةٍ في تحديد الحقّ، فَمِنْهُم من يَجدُهُ نسبيًّا، ومنهم من يَظُنّ أنّه يمتلكُ الحقيقةَ الكاملة، ومنهم من يَسْتَبيحُ لِنَفْسِهِ حياةَ الآخرين والسيطرةَ عليها حتّى ولو قَتَلَهُم باسم الحقّ.
لذا يتدخّلُ الربُّ مرّةً أخرى شارحًا الحقّ، عندما يؤكّد: “أنا هو الطريقُ والحقّ والحياة”، “أنا الحقّ”. إذا كان الحقُّ “إنسانًا-إلهًا”، عَلَّمَنا أنّنا نجدُ الحرّيّة في عَيْشِ قيمٍ سماويّةٍ وإنسانيّةٍ أرسلها إلينا عبر الأديان وعلى مرّ العصور. هو يدعونا لِعَيْشِ المحبّة والرحمة وبناءِ الأخوّة والسلام، لنكونَ أحرارًا. تمكّن غاندي من تحرير الهند بِعَيْشِهِ الفقرَ والتواضُعَ ونكرانَ الذات واللاعنف واحترامَهُ حرّيّة الآخر. كذلك فعل “مارتن لوثر كنغ” الذي حلم بالمساواة بين البيض والسود وآمَنَ بها وبالأخوّة، ودافَعَ عن الحرّيّة وإزالة كلّ تمييزٍ عنصريّ، مُعَرّضًا حياتَهُ للخطر. وكذلك الأمُّ تريزا التي تركت الرفاهيّة وأنكرَتْ ذاتها لتكونَ في خدمة أفقر الفقراء، واستطاعَتْ أن تُحقّقَ العجائب … يضمُّ التاريخُ صفحاتٍ من نورٍ لأشخاصٍ حملوا القِيَمَ ومحبّةَ الإنسان وهَمَّ العدالة في قلوبهم، فعاشوا أحرارًا بالرغم من الأَسْرِ والمصاعب، وحقّقوا العظائِمَ بالرغم من ضعفهم.
ما هي الحرّيّةُ إذًا؟ هي الحقُّ و”الحقُّ الذي يُحرّر”. فَلْنَعِشِ الحقَّ إذًا بأن نُحبَّ قريبَنا في الإنسانيّة كما أحبَّهُ الله، أي حتّى بَذْلِ الذات، فنتخلّى عن أنانِيَّتِنا ومصالِحِنا الضيّقة في سبيل الخير العامّ، ونجرؤَ على عيش السلام وبناء الأخوّة الشاملة، ونسعى لتحقيق العدالة والمساواة بين البشر بأن نُعْلِنَ ثورةَ المحبّة التي “تُبادر بالمحبّة”، و”تُحبّ الكلّ” و “من دون مقابل” و”تُحبّ حتّى الأعداء”، عندها نُحلّقُ أحرارًا كالنسر، ونرتفعُ عاليًا في السماء من دون أن يُعيقَ حُرّيَّتَنا شيءٌ، إذ يستطيعُ خيطٌ صغيرٌ أن يربطَنا ويَمْنَعَنا من التحليق. فلنقطعْ كلَّ ما هو تعلّقٌ أرضيٌّ، ولْنَضَع المحبّة الفائقة الطبيعة في المرتبة الأولى في حياتنا، فنكون حقًّا أحرارًا.
ألحرّيّةُ ليست خيارًا بين ما هو خَيِّرٌ وما هو شرّيرٌ! فأن تكون حرًّا هذا يعني أن تعرفَ كيف تَسلُكَ دربًا إيجابيًّا، درب الخير والبِرّ والإحسان.
بقلم ليلى نصّار