أميٌّ أم خبير؟
هويّةُ كلُّ فردٍ هي إعجابٌ بالذات، وعبادةُ الفرد هي عبادةٌ لشخصه. ألفردُ غيرُ قادرٍ على استيعاب حقيقته بكلّ أبعادها. هو مجرّدُ استهلاكيٍّ لا رادع له ولا تعقُّل. يقفُ متفرّجًا دون أن ينضمَّ لأيّ نضالٍ أو مواجهة، ودون أيّ حسٍّ نقديّ، أكثرها أن يحاول تقليدَ نموذج القوالب المعروضة عليه. هذه مأساتنا الحقيقيّة. عزلةٌ وانفراد… هي آفتُنا الإجتماعيّة والخطر الأكبر المحدّق بنا.
نعتقدُ أنّ الفراغَ في داخلنا يُعوّضُ عنه كلّما حاولنا أن نُثبِتَ ذاتنا، أو كلّما أردنا أن نتركَ انطباعًا مُذهلاً حول شخصنا عند الآخرين، أو ربّما حين تَبارَيْنا من أجل إحراز العدد الأكبر من “الإعجاب” أو “التعليق” على الفايسبوك والإنستغرام، أو حينما زِدْنا عدد العلاقات الوهميّة أو الإفتراضيّة، أو حين شاركنا ببرامج تلفزيونيّة رخيصة ومُنْحطّة بثقافتها وأخلاقيّاتها، والأمثلة كثيرة… نحن لسنا بأُمِيّينَ أو جُهَّل لكي نضيفَ كميّة الوحشة على عزلتنا والفراغ على تفرُّدِنا.
نعتقدُ أنّ الفراغَ في داخلنا يُعوّضُ عنه كلّما حاولنا أن نُثبِتَ ذاتنا، أو كلّما أردنا أن نتركَ انطباعًا مُذهلاً حول شخصنا عند الآخرين، أو ربّما حين تَبارَيْنا من أجل إحراز العدد الأكبر من “الإعجاب” أو “التعليق” على الفايسبوك والإنستغرام، أو حينما زِدْنا عدد العلاقات الوهميّة أو الإفتراضيّة، أو حين شاركنا ببرامج تلفزيونيّة رخيصة ومُنْحطّة بثقافتها وأخلاقيّاتها، والأمثلة كثيرة… نحن لسنا بأُمِيّينَ أو جُهَّل لكي نضيفَ كميّة الوحشة على عزلتنا والفراغ على تفرُّدِنا.
إنّ الفردَ دائمًا غيرُ راضٍ، في منافسةٍ ضاريةٍ مع الآخرين. يحاولُ أن يَقْتَنِيَ أجمل وأحدث الأشياء ويبقى مخذولاً في نهاية الأمر لأنّه وفجأةً يظهرُ من يملكُ الأجمل منه!
هذه الفرديّة الحادّة العنيدة والأخّاذة، هذه الفرديّة التي تَدَعُنا مُنْغَلقين، مُتَقَوْقِعين على ذاتنا في قشورٍ هشّة، مصابين بضمور الأنا، عاجزين عن الإنفتاح على حياةٍ يليقُ بها أن تُسمّى كذلك.
إنّ الفردَ مجرّدُ “كاريكاتور” للشخص. لذا علينا أن ندركَ كيف نعدو ونَعبُرُ من الإنفراديّة إلى الجماعيّة. وهذا ممكنٌ إنْ غَدَوْنا أشخاصًا وحسبُ.
نعم الفردُ ضعيف، يعيشُ في عدم أمان، لا يعرفُ أن يقومَ بخياراتٍ حقيقيّةٍ يوميّة، ليس مستعدًّا للتعاطي مع التحديّات المُسْتدامة، ولا يقدرُ أن يَعبُرَ من المجاز والتشويش إلى الملموس والواقع. أمّا الشخص، على نقيض الفرد، فهو حرٌّ، يمكنه أن يتجاوزَ بُعدَهُ الطبيعيّ ليبنيَ علاقاتٍ حقيقيّةٍ مع الآخر. أيُّ آخر؟ إنّه الأخ، الجار، زميل العمل… وهنا يُدخلُ شَخصِيَ الفريد في علاقةٍ مع شخص الآخر الفريد بدوره، فأستطيع أن أستقبلَهُ في داخلي وأهِبَهُ من وزناتي. عليَّ أن أكونَ هبةً للآخر بملء حريّتي وبمجانيّة، من دون أن أترقّبَ أيّ مكافأةٍ على أعمالي، عليَّ أن أكون بالتالي مؤهّلاً للتعبير عن شخصي بكليّته، أي أن أكون صاحب كينونةٍ داخليّةٍ رحبة، تكبر مساحتُها بفضل علاقاتي الأخويّة بالآخرين.
شخصٌ إلى جانب شخصٍ آخر… حياةُ علاقاتٍ وكرامةٍ واحترامٍ متبادل.
هذا هو السبيل لنكون أحرارًا، فالحريّة هي العناية الفائقة بالعلاقة التي نَبْنِيها.
لننظُرْ عن كثبٍ وبوضوح ٍ وتجرُّد إلى حياتنا. كيف هي؟
هل هي فرديّةٌ أم اجتماعيّة؟
هل هي غنيّةٌ أم فقيرةٌ في علاقاتها؟
هل نعتني بِجَعْلِها أكثر خصبةً أو بِتصْحيرها؟
أرجوكَ لا تُعدّد لي ما تحصيه من شعبيّةٍ على وسائل التواصل الإجتماعيّ، تلك التي تحاول أن تلبّيَ حاجةً لديك مقدِّمَةً حلاًّ مؤقّتًا…
أنا أحدّثُكَ عن علاقاتٍ واقعيّةٍ تعيشُها لو أردت عشرات المرّات خلال يومك.
إليك هذه الحادثة ترويها إحدى الصديقات:
“كنتُ أنتظر في موقفٍ للباصات في محطّة مدينتي. وصل الباص، وإذا برَجُلٍ مُعاقٍ ينزلُ منه بصعوبةٍ فائقة، مُنْحَنِيًا إلى الأمام وتكاد رجلاه لا تحملانه… حالتُهُ سيّئةٌ جدًّا. عندما وصل الباص التالي، رأيته يتقدّمُ بجهدٍ كبيرٍ نحو الباب الرئيسيّ، محاولاً الحفاظ على توازنه. ولكن، كيف سيصعدُ وهو لا يقدرُ رَفْعَ رِجْلِهِ لِوَضْعِها على سُلّم الباص؟ لم يحرّكْ أحدٌ ساكنًا لمساعدته، فكلٌّ إمّا في محادثةٍ على الخليويّ وإمّا ينظر ولا يرى. أغلقَ السائقُ الباب مستعدًّا للإنطلاق والرجُلُ واقفٌ لا حَوْلَ ولا قوّةَ له. فأخذتُ أضرب بيدي على زجاج الباب حتّى فُتِحَ. صعدتُ إلى الباص ورفعتُ الرجُلَ المسكين إلى داخله، وبعد أن تأكّدتُ أنه بسلامةٍ نزلت. أمّا المضحكُ المبكي هو أنّ الناسَ من حولي راحوا ينظرون إليّ كما لو كنت بطلةً تثيرُ الإعجاب. لا أريدُ أن يُنظَرَ إليّ هكذا! فبالنسبة إليّ، لا يهمّ إن كنتَ فقيرًا أو غنيًّا ، قذرًا أو معطّرًا بعطر”شانيل”، إن كنتَ بحاجةٍ للمساعدة فأنا أساعدك من دون تفكير. لطالما تصرّفتُ بهذه الطريقة بشكلٍ طبيعيّ. ولكن، يبدو أنّ الأمر ليس طبيعيًّا بالنسبة إلى البعض وهذا ما يُغْضِبُني. يُؤسِفُني جدًّا أن نكون وصلنا إلى هذه الفرديّة المُفرطة وهذا الإنغلاق في مجتمعاتنا لدرجةٍ أنّ الأعمالَ التي علينا أن نقومَ بها لأنّنا بشرٌ بكلّ بساطة، وبالتالي نحن متضامنون، أصبحَتْ هذه الأعمال غيرَ اعتياديّةٍ وبعيدةً عن الحياة اليوميّة، حتّى إنّها تُسْتَغلّ لِتصْنَعَ الحدثَ في التلفزيون والصحف. أمرٌ أشْمَئِزُّ منه حقًّا” .
إنّ الفرديّةَ هي داءُ العصر، مأساةٌ حقيقيّةٌ تلفُّنا جميعًا. وهي أشدُّ خطورةً من أيّ شيءٍ آخر. أين نحن من بناء العلاقات الإجتماعيّة وحياكة نسيج أخوّةٍ بين البشر؟ أحدّثُكَ لِتقلَعَ الأميّةَ جانبًا وتصبحَ خبيرًا. أحدّثكَ لنتكاتفَ ونتساعَدَ حتّى يتحوّلَ كلُّ فردٍ إلى شخصٍ يعرف كيف يبني الجماعة، جماعةٌ أساسُ علاقاتها الأخلاقيّات وليس العنف، جماعةٌ تكون معهدًا للقِيَمِ وللصراع من أجل الخير العام، وليس استسلامًا ومحطّةً للتدهور الإجتماعيّ والثقافيّ.
حتّى نكونَ سعداء علينا أن نكون أقلّه اثنين…
هذه الفرديّة الحادّة العنيدة والأخّاذة، هذه الفرديّة التي تَدَعُنا مُنْغَلقين، مُتَقَوْقِعين على ذاتنا في قشورٍ هشّة، مصابين بضمور الأنا، عاجزين عن الإنفتاح على حياةٍ يليقُ بها أن تُسمّى كذلك.
إنّ الفردَ مجرّدُ “كاريكاتور” للشخص. لذا علينا أن ندركَ كيف نعدو ونَعبُرُ من الإنفراديّة إلى الجماعيّة. وهذا ممكنٌ إنْ غَدَوْنا أشخاصًا وحسبُ.
نعم الفردُ ضعيف، يعيشُ في عدم أمان، لا يعرفُ أن يقومَ بخياراتٍ حقيقيّةٍ يوميّة، ليس مستعدًّا للتعاطي مع التحديّات المُسْتدامة، ولا يقدرُ أن يَعبُرَ من المجاز والتشويش إلى الملموس والواقع. أمّا الشخص، على نقيض الفرد، فهو حرٌّ، يمكنه أن يتجاوزَ بُعدَهُ الطبيعيّ ليبنيَ علاقاتٍ حقيقيّةٍ مع الآخر. أيُّ آخر؟ إنّه الأخ، الجار، زميل العمل… وهنا يُدخلُ شَخصِيَ الفريد في علاقةٍ مع شخص الآخر الفريد بدوره، فأستطيع أن أستقبلَهُ في داخلي وأهِبَهُ من وزناتي. عليَّ أن أكونَ هبةً للآخر بملء حريّتي وبمجانيّة، من دون أن أترقّبَ أيّ مكافأةٍ على أعمالي، عليَّ أن أكون بالتالي مؤهّلاً للتعبير عن شخصي بكليّته، أي أن أكون صاحب كينونةٍ داخليّةٍ رحبة، تكبر مساحتُها بفضل علاقاتي الأخويّة بالآخرين.
شخصٌ إلى جانب شخصٍ آخر… حياةُ علاقاتٍ وكرامةٍ واحترامٍ متبادل.
هذا هو السبيل لنكون أحرارًا، فالحريّة هي العناية الفائقة بالعلاقة التي نَبْنِيها.
لننظُرْ عن كثبٍ وبوضوح ٍ وتجرُّد إلى حياتنا. كيف هي؟
هل هي فرديّةٌ أم اجتماعيّة؟
هل هي غنيّةٌ أم فقيرةٌ في علاقاتها؟
هل نعتني بِجَعْلِها أكثر خصبةً أو بِتصْحيرها؟
أرجوكَ لا تُعدّد لي ما تحصيه من شعبيّةٍ على وسائل التواصل الإجتماعيّ، تلك التي تحاول أن تلبّيَ حاجةً لديك مقدِّمَةً حلاًّ مؤقّتًا…
أنا أحدّثُكَ عن علاقاتٍ واقعيّةٍ تعيشُها لو أردت عشرات المرّات خلال يومك.
إليك هذه الحادثة ترويها إحدى الصديقات:
“كنتُ أنتظر في موقفٍ للباصات في محطّة مدينتي. وصل الباص، وإذا برَجُلٍ مُعاقٍ ينزلُ منه بصعوبةٍ فائقة، مُنْحَنِيًا إلى الأمام وتكاد رجلاه لا تحملانه… حالتُهُ سيّئةٌ جدًّا. عندما وصل الباص التالي، رأيته يتقدّمُ بجهدٍ كبيرٍ نحو الباب الرئيسيّ، محاولاً الحفاظ على توازنه. ولكن، كيف سيصعدُ وهو لا يقدرُ رَفْعَ رِجْلِهِ لِوَضْعِها على سُلّم الباص؟ لم يحرّكْ أحدٌ ساكنًا لمساعدته، فكلٌّ إمّا في محادثةٍ على الخليويّ وإمّا ينظر ولا يرى. أغلقَ السائقُ الباب مستعدًّا للإنطلاق والرجُلُ واقفٌ لا حَوْلَ ولا قوّةَ له. فأخذتُ أضرب بيدي على زجاج الباب حتّى فُتِحَ. صعدتُ إلى الباص ورفعتُ الرجُلَ المسكين إلى داخله، وبعد أن تأكّدتُ أنه بسلامةٍ نزلت. أمّا المضحكُ المبكي هو أنّ الناسَ من حولي راحوا ينظرون إليّ كما لو كنت بطلةً تثيرُ الإعجاب. لا أريدُ أن يُنظَرَ إليّ هكذا! فبالنسبة إليّ، لا يهمّ إن كنتَ فقيرًا أو غنيًّا ، قذرًا أو معطّرًا بعطر”شانيل”، إن كنتَ بحاجةٍ للمساعدة فأنا أساعدك من دون تفكير. لطالما تصرّفتُ بهذه الطريقة بشكلٍ طبيعيّ. ولكن، يبدو أنّ الأمر ليس طبيعيًّا بالنسبة إلى البعض وهذا ما يُغْضِبُني. يُؤسِفُني جدًّا أن نكون وصلنا إلى هذه الفرديّة المُفرطة وهذا الإنغلاق في مجتمعاتنا لدرجةٍ أنّ الأعمالَ التي علينا أن نقومَ بها لأنّنا بشرٌ بكلّ بساطة، وبالتالي نحن متضامنون، أصبحَتْ هذه الأعمال غيرَ اعتياديّةٍ وبعيدةً عن الحياة اليوميّة، حتّى إنّها تُسْتَغلّ لِتصْنَعَ الحدثَ في التلفزيون والصحف. أمرٌ أشْمَئِزُّ منه حقًّا” .
إنّ الفرديّةَ هي داءُ العصر، مأساةٌ حقيقيّةٌ تلفُّنا جميعًا. وهي أشدُّ خطورةً من أيّ شيءٍ آخر. أين نحن من بناء العلاقات الإجتماعيّة وحياكة نسيج أخوّةٍ بين البشر؟ أحدّثُكَ لِتقلَعَ الأميّةَ جانبًا وتصبحَ خبيرًا. أحدّثكَ لنتكاتفَ ونتساعَدَ حتّى يتحوّلَ كلُّ فردٍ إلى شخصٍ يعرف كيف يبني الجماعة، جماعةٌ أساسُ علاقاتها الأخلاقيّات وليس العنف، جماعةٌ تكون معهدًا للقِيَمِ وللصراع من أجل الخير العام، وليس استسلامًا ومحطّةً للتدهور الإجتماعيّ والثقافيّ.
حتّى نكونَ سعداء علينا أن نكون أقلّه اثنين…
بقلم ريما السيقلي