أحبّوا بعضكم بعضًا
في مسيرة الوحدة هذه أرسل الله عدّة هبات من الروح القدس، ومن بينها “كاريزما الوحدة” أو “روحانيّة الشَرِكة” التي وُهبَت لكيارا لوبيك مؤسِّسة الفوكولاري. تقول كيارا: “القلم لا يدري ماذا سيكتب والريشة تجهل ماذا عليها أن ترسم. حين يهتمُّ الله بمخلوقه كي يبزُغَ في الكنيسة عملٌ من أعماله، لا يعرف هذا الشخص ماذا عليه أن يفعل. إنّه أداة”. نعم، ليس هناك من برنامجٍ محدّدٍ يأتي مسبقًا، إنّما الإستعداد الكامل لعَيْشِ مخّطّط الله. هكذا بُنيَتْ علاقات أخويّة مع كنائس عدّة، فمنهم من رأى في هذه الروحانيّة “جسرًا من المحبّة الإنجيليّة”، ومنهم من قال “إنّ كيارا تجلب الوحدة، الشغف بالوحدة، عندها رؤية الوحدة”. ومع مرور الوقت تعمّقت العلاقات مع الكنائس المختلفة وبالنسبة للكثيرين كانت هذه العلاقة بالنسبة للمؤمنين إعادةً لإكتشاف ثروات كنيستهم والميراث المشترك الذي يربط جميع المسيحيّين، أي الإنجيل.
 
بمناسبة عيد الستّين عامًا لمركز “أونو”، وهو مركز العمل المسكونيّ التابع للفوكولاري، عُقدَ مؤتمرٌ عالميٌّ في نهاية شهر أيّار (مايو) لمدّة يومَيْن مُتتالِييْن عبر وسائل التواصل الإجتماعيّ، ضمّ القارّات الخمس، وشهد مداخلاتٍ لشخصيّاتٍ كنسيّةٍ وعلمانيّةٍ منتميةٍ لمختلف الكنائس، كما تُوّجَ اللقاء بخبرات حياةٍ مُعاشة، تُعزّز التوق للعمل لوحدة المسحيّين.
 
“أحبّوا بعضكم بعضا كما أنا أحببتكم”، كانت هذه الآية عنوانًا للمؤتمر. “من هذا سوف يعرف الجميع أنّكم تلاميذي، إن أحببتم بعضكم بعضا”. محبّة الآخر المنتمي لكنيسةٍ أخرى ومحبّة كنيسة الآخر. نعم، أن نغتنيَ من وجهة نظر الآخر ومن تقليد كنيسته دون أن ننكُرَ تعاليم وغنى كنيستنا الخاصّة، هذا ما أراد أن يشهد له هذا المؤتمر. إستطاع الوباء أن يمنعَ المشاركين بأن يلتقوا وجهًا لوجه، لكنّه لم يقدر أن يَمنَعَهُم من تبادل الخبرات والهبات حتّى يكونَ المسيح في ما بينهم كما وعد، إذ قال: “لأنّه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة بإسمي فهناك أكون في وسطهم”.
 
تمحورت الأحاديث حول وصيّة المحبّة المتبادلة، فجاء، على سيل المثال، في حديث الأستاذ اللاهوتيّ الجامعيّ بيرو كودا الآتي: “إن وَضعنا أنفسنا في مدرسة المُعلّم الأوحد، يسوع، وأَصغَيْنا للروح القدس، كما علّمنا كاريزما الوحدة، أي إن أدركنا بأنّنا جميعنا نشكّلُ شعب الله الواحد، فَنُفعِّل بالتالي هبة الحبّ التي سكبها الروح القدس في قلوبنا، إن فعلنا ذلك، هذا يعني بأنّنا نعي بإقتناعٍ وبجذريّة ما هو “العهد الجديد”، الذي أبرمه الله بيسوع “مرّةً وإلى الأبد”، مع وبين تلاميذه بواسطة الإيمان والعماد. وهذا العهد، العهد الجديد، له بُعدٌ ثلاثيّ: عهد المحبّة المتبادلة (على مستوى الأفراد والعلاقات بين الكنائس)، عهد الرحمة (رُحماء بعضنا تجاه بعض لأنّنا رُحِمْنا بمغفرة الله)، وعهد الوحدة (أن نعيشَ الآخر ونكون واحدًا معه بالحبّ، فنتحضّر لِعَيشِ عهدِ الوحدة الذي خُتمَ فوق الصليب، والذي أصبحنا فيه، كلّنا شركاء في الإيمان والعماد). هكذا يعود يسوع، يسوع الحيّ، ليمشِيَ في وسطنا كما حصل مع التلاميذ على طريق عمّاوس. “في هذا الرجاء الذي لا يُخزي، لأنّ محبّة الله انْسكَبَتْ في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا” (رو ٥، ٥)”.
 
أمّا الكاردينال كوخ، رئيس المجلس البابويّ من أجل وحدة المسيحيّين، فتحدّث عن الوباء كتحدٍّ وفرصة. كما تكلّم حول قطبي كاريزما الوحدة، كما سمّاهما. القطبُ الأوّل هو الصلاةُ التي صلّاها يسوع من أجل خاصّته، صلاة الوحدة: “ليكونوا بأجمعهم واحدًا”، والقطب الثاني هو يسوع المصلوب والمتروك، الذي منح كيارا لوبيك الشجاعة لردم الإنشقاقات العميقة بين المسيحيّين وبين الكنائس، والتي سبّبها على مرّ العصور، النقص في المحبّة الأخويّة، ثمّ أضاف قائلاً: “في صلاة يسوع الكهنوتيّة “ليكونوا بأجمعهم وحدًا”، والمذكورة في الفصل السابع عشر من إنجيل يوحنّا، نجدُ واضحًا المعنى المسكونيّ. لم يأمُرْ يسوع تلاميذَهُ بالوحدة ولم يَتطلَّبْها منهم، إنّما صلّى لأجلها. هكذا بالنسبة لنا، إنّ أفضل ما يمكن صنعه هو الصلاة من أجل الوحدة، فالوحدة هبة، أو كما قالت كيارا، الوحدة هي معجزة. لكنّ الصلاة ليست هدفًا بحدّ ذاتها، فالوحدة نصدّقها ليس بمجرّد الإعلان أو الإيمان بها، إنّما وبخاصّةٍ حين تكون معاشة. سلّطت كيارا دائمًا الضوء على أهميّة عيش كلمة الله بشكلٍ حِسّيٍّ في الحُبّ اليوميّ، كي تصبحَ هذه الكلمة، كلمةَ حياة. وكما قالت كيارا:”من وجّه حياته نحو الوحدة، وصلَ إلى قلب قريبه وأصابَ قلبَ الله”.
 
تتابعت المداخلات والشهادات الحيّة في جميع الأقطار، مرسّخةً بذلك الإلتزام عند كلّ الحاضرين بالعيش للمساهمة في وحدة المسيحيّين، في محبّة كنيسة الآخر ككنيستِنا. يجعلنا الإنجيل الذي نعيشُهُ معًا نتوصّلُ إلى معرفة وتقدير بعضنا البعض بشكلٍ متبادَل، إلى تحقيق مشاريع وأهداف مشتركة، كلٌّ في أمانةٍ عميقةٍ لكنيسته. إنّها شهادةٌ على مسكونيّة الحياة.
 
إنّه حوارُ الحياة الذي لا يستبعدُ الأشكالَ الأخرى للحوار، كالحوار اللاهوتيّ وحوار الصلاة والمحبّة، بل على العكس، يُقوّيها ويدعَمُها. حوارُ الحياة هذا، الذي لا ينكر الصعوبات، هو علامةُ رجاءٍ في عالم اليوم.
 
إعداد ريما السيقلي

 

Spread the love