إنّ دراسة واقعيّة الوضع الإجتماعيّ في أيّامنا هذه، تُظهر وجودَ صراعٍ شديدٍ بين الأجيال، ممّا ينعكس سلبًا على حياة العائلات والمجتمع وأماكن العمل وفي الميادين الإجتماعيّة والإنسانيّة المختلفة. وقد جاءت الثورة الرقميّة لتوسِّعَ الهوّة بين الأجيال، فضلاً عن أنّ التحصيلَ العلميّ للأجيال الصاعدة جعل الأمورَ أكثر تعقيدًا.
في هذا المجال، نشهد أنّ روحانيّة الوحدة قد ساهمت في رأب الصدع بين الأجيال من خلال نشر ثقافة المحبّة والحوار، ممّا دفع بالكثير من المؤسّسات العلميّة إلى تكريم مُؤسِّسة الفوكولاري، كيارا لوبيك، عبر مَنْحِها عددًا من شهادات الدكتوراه الفخريّة، لاسيّما في علم الإجتماع، بالنظر إلى مساهمتها الفعّالة والمُثْمِرة في هذا المجال.
إنّ ما يُعزِّز هذا التوجُّه، هو هيكليّة “عمل مريم” (الفوكولاري) بالذات، حيث نرى أشخاصًا مُلتزمين ومن أعمارٍ مختلفة، من أديانٍ وأعراقٍ متنوّعة، يتعاونون ويتناغمون في الكثير من النشاطات، ركيزتهم عيش الوحدة، وذلك من خلال المخيّم الصيفيّ (الماريابولي) وغيره.
بل، بِبُعْدٍ روحانيٍّ ينقلُ العلاقة من مجرّد علاقةٍ إنسانيّةٍ إلى علاقة روحانيّة، كون الآخر بِميزَتِهِ وفَرادَتِهِ هو سبيلُنا إلى الله.
في سياق ما تقدّم، نعرضُ بعضًا من التأمّلات المستوحاة من روحانيّة الوحدة بهدف مقاربة الموضوع بشكلِ أشمل:
۱- إعتبرت كيارا في إحدى التأمّلات الموجّهة إلى المسؤولين عن الأولاد الذين تتراوح أعمارُهُم ما بين ٤ و۹ سنوات، بوجوب اعتبار كلّ ولدٍ بمثابة يسوع كامل وليس بيسوع صغير، وأضافت: “إذا تناولت نصف قربانةٍ أو فُتاتًا منها، تكون قد تناولتَ يسوعَ بكامله، وليس نصف يسوع. فكلُّ قربانةٍ مهما كبرت أو صغرت تحتوي يسوع بكامله”، لتخلصَ إلى القول إنّ العلاقة التي تربط الأشخاص الواحد بالآخر هي يسوع، فلا يعودُ بعدها فرقٌ إنْ لناحِيَةِ العمر أو الجنس أو العرق.
۲- إنّ علاقة المحبّة المتبادلة والوحدة، تفرضُ على كلّ شخصٍ إفراغَ ذاته لاستقبالِ الآخر. وعند عمليّة إفراغ الذات نُصبحُ من دون شكلٍ أو عمرٍ أو عرقٍ لنستقبلَ الآخرَ بكُلّيَّته. وبالتالي، عندما تكون العلاقة بين الأشخاص علاقةَ محبّةٍ متبادلةٍ ووحدة، لا يعودُ من اعتبارٍ للاختلافات كافّة، بما فيها فارق السنّ.
۳- إنّ الآخر عندما يكونُ مصدرًا للتواصُل مع الثالوث الأقدس وأقانيمه يصبحُ وبِغَضِّ النظر عن سِنّهِ وشكله وعِرْقِهِ يسوعَ آخرَ، وبالتالي مصدرًا للحكمة والغنى الروحيّ. هذه الأفكار تنطبقُ أيضًا على العلاقة بين الكبير والصغير والعكس صحيح. باختصارٍ، إنّ الآخَرَ هو انعكاسٌ ليسوع بحسب قول الإنجيل وروحانيّة الوحدة.
٤- في أكثر من مناسبةٍ اعتبرت كيارا لوبيك أنّ الوحدة ويسوع المصلوب والمتروك هما وجهان لعملةٍ واحدة للتشديد على أهميّةِ التفاعُل بين النقطتين. إنّ مفتاح الوحدة بين الأجيال وبين الأشخاص المختلفين يرتكزُ على صرخة يسوع المتروك على الصليب “إلهي إلهي لماذا تركتني؟”، وليس على أيّ اعتبارٍ آخر. إنّ أصدقَ تعبيرٍ عن هذا الالتزام هو التأمّل المعروف لكيارا “كلّ ما يؤلمني هو لي”.
٥- أن نؤمن بعطيّة الله المتمثِّلة بِمَنْحِهِ أحدنا وزناتٍ أكثر من الآخَر أو أقلّ، لهو دليلٌ بأنّه غيرُ مرتبطٍ بالعمر أو الجنس أو الدّين أو اللون…
في هذا الإطار، أودّ أن أشارك ببعضٍ من اختباراتي الخاصّة:
منذ حوالي عشرة سنوات إلتزمْتُ مع فرع المتطوّعين في الفوكولاري، وشاءت العنايةُ الإلهيّة أن أكون ضمن مجموعةٍ من الرجال لا تقلُّ أعمارُهُم عن الخمسين سنة، في حين لم يكن عمري وقتها يتجاوز السادسة والعشرين.
إنّ هذا الاختبار الإنسانيّ والروحيّ العميق ترك في داخلي أثرًا إيجابيًّا في مقاربة شؤون الحياة، إلّا أنّني كنت أخجلُ أن أشاركَ باختباراتي الشخصيّة لأنّني كنت أعتبرُها بسيطة، أو ربّما عاديّة، أمام أشخاصٍ بالغين ناضجين، بما كنتُ أسمع منهم من اختباراتٍ عميقةٍ وجديّةٍ ومشاركةٍ صادقةٍ تنمُّ عن الوحدة والمحبّة المتبادلة بينهم… ولكنْ، كنت على الرغم من هذا، أتشجّع وأثق بمحبّة الآخر وأخبرُ ما أراه مناسبًا.
ذات مرّة وبعد مشاركتي باختبارٍ شخصيّ، عبّر أحد الموجودين عن أهميّة الاختبارات البسيطة في حياة كلّ فردٍ منّا لأنّها غنى لكلٍّ مِنّا.
وفي وقتٍ لاحق طُلب مني المساعدة في مخيّمٍ صيفيّ مع الأولاد، وكنت أمرُّ بمرحلةٍ روحيّةٍ صعبة. أذكر أنّ الأطفال راحوا يشاركون باختبارهم الشخصيّ، روى أحدهم، عاى سبيل المثال، بأنّه لم يكن يريد اللعب مع الآخرين، لكنّه عاد وفعل محبّةً بيسوع، وأخبر آخر بأنّه لم يكن يودُّ أن يشاركَ بنشاطٍ مسرحيّ، لكنّه عاد والتزَمَ محبّةً بالآخرين… وجّهت هذه الكلماتُ لِيَ درسًا لن أنساه، لأنّ الصعوبات الروحيّة التي كنتُ أمرّ بها مَرَدّها إلى أنّني لم أستطع أن أرى يسوعَ في الآخر. هذه الاختبارات تؤكّد لي يومًا بعد يوم أهميّة عيش الوحدة بين الأجيال.
إنّ هذه النقاط تخلقُ في قلب الإنسان المؤمن ديناميّة جديدة تجعلُهُ ينظر إلى الصعوبات الحياتيّة والتواصليّة مع الآخر بشكلٍ مختلف، تحفّزُهُ وتقرّبُهُ منه بغضِّ النظر عن عمره أو عرقه أو دينه ليصبحَ فرصةً للقائه مع الله.
جان نمّور